محطات الحياة بأحداثها لا تتوقف و وجوه الغرباء طيفٌ يصنع الكثير من الأشباه في الذاكرة، و حديثهم ذا نسقٍ لا يخرج منها. كحديث الطائرة مثلاً، و دردشة ثواني المصعد، و على رصيف المشاة، و في صالات القطار، و على مقاعد الانتظار. كانت تلك مصادر خطرٍ و حذر لم تتوانى فيها أمهاتنا عن رسم الخطوط الحمراء عند الحديث مع الغرباء بينما هو أروع تفاعل إنساني عابر ممكن أن تحظى به.
تقول الكاتبة كيو ستارك: نحن نتواصل أحياناً مع الغرباء بصورة أكثر عمقاً و حميمية من الأصدقاء و الأهل لأن مشاعرنا تجاه الغريب مفرغة من التوقعات التي قد تثقل تفاعلنا مع القريب.
لكن يبقى حديث الصحب حديث روح و متعة. و تبقى لذة سرد الحكاية لصاحبك بكل أريحية دون قيود أو أسلوب مُعقد نكهة خاصة و شعور لا يوصف من الراحة و الثقة و الطمأنينة بأن هناك نصفٌ آخر منك يتحملك مهما طالت حكايتك البائسه، تُعبر بطريقتك الخاطئة فيقول لك: تقصد هذا و يكون مقصده هو ما تريده بالضبط. شخصٌ يفهم معنى حركة يديك أثناء حديثك و يُقدر تلعثمك و تداخل العبارات حين يأخذك حماس التعبير فتخلق لك مصطلحاً جديداً يُعجب به و يضيفه لقاموسه الخاص بالحديث معك، يؤنبك قبل أن يُثني عليك، و يُرشِدك حين تظل الهُدى، يُعيدك لواقعك حين تُبحر في اللاشعور، تتحدث معه عن قراراتك الخاطئة قبل الصحيحة و عن أعظم أفكارك و أتفهُها، شخصٌ تتجرد من آداب الحديث أمامه شخص يكمل عبارتك حين تنساها فيُشكل حديثك معه فارقاً عظيماً في قلبك و في توازن حياتك و في خطواتك و في إستقامتك و إستقرارك.
في يوم من الأيام أخذت موعداً من أحد الزميلات بعد إنتهاء العمل لمناقشة و إعتماد بعض النقاط المهمة قبل أن نبدأ بتطبيقها و كنت أترقبها مُنتظرة. في هدوء المقهى المعتاد على ناصية الطريق في منتصف الساعة الأولى أستمتعت جداً و وددت لو طالت ساعة انتظاري لها، أستطعت أن أرى كيف للحديث أن يصنع فارقاً في نفوسنا و متنفساً لأرواحنا كيف للحديث أن يروي عطش نفوسنا، أن يجعلنا كالغمام نُحلق في السماء بِسلام. ترتسم الإبتسامة على وجوهنا أثناء حديثنا بِحُب و أريحية مع أصحابنا عن شتى مواضيع و مواقف الحياة. لقد كان أحدهم في ذلك اليوم خلال ساعة إنتظاري لزميلتي متلهفاً متعلقاً بعينيه على ساعته مُقابِلاً للباب، كان صامتاً جامداً في البداية لم أتوقع من صمته و هيئته هذه و جموده إلا أن يكون شخصاً يستحيل أن يحدثك لدقيقه متواصلة!! لكن ما لبثت بضع دقائق إلا و صوت حديثه و ضحكاته تقطع حبال أفكاري التي تعبت فيها مع زميلتي جاهده على مدى ساعةٍ ونصف لربطها و تحليلها، لقد كان ممتلئاً بالحديث و ينتظر ذلك الصاحب بفارغ الصبر كان حديثه بين جلسةٍ و وقوف، بين صوتٍ عال و ضحكة أعلى بين معارضة رأي و تأييد كان شخصاً واحداً يقابله على الطاولة لكنني متأكدة أنه يساوي العالم أجمع.
يقول النيسابوري في وصف أحد صحبه: فلان حلو المذاق عذب المساغ أعلى الناس في جِد و أحلاهم في هزل، يتصرف مع القلوب كتصرف السحاب مع الجنوب، لهُ عِشرةٌ ماؤها يقطُر و صحوها من الغضارة يُمطر هو ريحانةٌ على القدح و ذريعة إلى الفرح. عِشرتُهُ ألطفُ من ريح نسيم الشمال على أديم الماءِ الزُلال و ألصق بالقلب من علائِق الحُب.
و عن توق اللقاء و جلسة الصفاء حين يروي لنا الكاتب عبدالوهاب مطاوع جوع روحة للحديث مع صاحبة و اشتياقها للتحدث عن المفارقات المضحكة و المواقف السيئة قبل الجميلة و كيف إحساسه بالغربة وسط الزحام لكن لم يعذب نفسه أكثر من ذلك حين أخذ موقفه و غادر من كارديف إلى لندن ليتكلم فقط.
و يؤكد أهمية ذلك قول أبي حيان التوحيدي عن حديث الأصدقاء: هو شفاء للصدر، و تخفيفاً من البرحاء، و انجياباً للحرقة، و اطراداً للغيظ، و برداً للغليل، وتعليلاً للنفس.
فحديث الصحب حقاً دواءٌ للنفس و إرتواءٌ للروح.