هذه الوجوه التي تعبرنا كلوحات الطرق أتراها كانت تعلم أنها سوف تستقر في أعماقنا سبعين خريفا ؟
مضى عام أو نصف عام أو أكثر من النصف بقليل
وأنا كما تركتني أدمي أصابع الكتابة أشرب الحبر أنخابا كل ليلة .
أنخاب غياب بلا أجل مسمى .
أسير وذاكرتي على جسور أحلامنا نتسكع تسكع العاطلين عن العمل تجوبنا الطرق الكبيرة في المدن الكبيرة تمرر ضجيجها فوق روؤسنا تُحمل أقدامنا خطايا القتلة تلبسنا معاطف الغرباء وحشتهم وحنينهم وتعلق في أذاننا هذيان المخمورين وكوؤسهم الفارغة .
مضت إحدى عشرة سنة أقل من الألم بمسافة أكثر من الحنين بخمس وثلاثين خفقة هل كان عاما واحدا أم أعوام عديدة ؟
لم أعد أجيد الحساب ولم يعد هذا الأمر يعنيني مُذ رهنت ذاكرتي وأرجئت فرحي إلى يوم عودتك .
لم أفتح صندوق بريدي قط لم أسمح لعناوين الرسائل أن تبعث وجعي الراقد
لكنه كان ينهض كهندي أحمر يرفض وحشية البيض وقانون العالم
ينهض كل مرة كمتمرد حر يحدو حداء مر يسترد به وجوه رفاقه الثوار يمرر صوته الموجوع على دمائهم
دماء الشرفاء لا تبرد تبقى كما لو أنها لتو فارقت أجسادهم ، وكذلك كان وجعي
ظل ثائر يحمل سيفه فوق عنقه لكن المعركة انتهت
وساحة تيتوس لم تعد مستعدة للقتال لم يعد فيها مايغري
لكنه بقي واقفا يصرخ في أروقتها كان مناظلا بلا معركة
غادر الجميع - نهاية الأمر - ذهبوا ليناموا في بيوتهم وبقيت عينه مستيقظة يقظة كجنود منطقة حدودية متاخمة لإسرائيل .
من يقنع وجعي أن المعارك لم يعد لها شرف باتت مدفوعة الأجر سلفا ؟
لايريد أن يستوعب هذا الوجع البدائي أن النسيان هو الورقة الرابحة الأخيرة في يده ، لديه أجندة معطلة كورقة عمل تخص القضية الفلسطينية
أجندة لايعبأ بها أحد وضعوها غير صالحة للاستهلاك السياسي شيء لتزجية الوقت لشغل الرأي العام لإيهام البسطاء أن هؤلاء المأجورين يفعلون شيئا، قلقون ومثقلون بالدم الفلسطيني
بينما في الحقيقة أن تلك القضية لم تعد تهم أحد عدا اليسير من أهلها
أولئك الذين تلبس نسائهم مفاتيح دورهم المهدمة أقراط في أذانهن
تلك القضية البائسة التي يستدعيها كل سياسي أضاع شرفه ليأثث بها وجهه أمام شاشات التلفزة
ليملأ على شرفها جيبه ليؤمن بها قوت عمره .
كبر وجعي كالخيبات العربية كأحلام السجناء وحزن اليتامى كبر متماسك يشد بعضه بعضا
تمرد كالفقر في عيون الفقراء كان مالحا كدمعهم لكنه كان لذيذ كطعم الخبز في أفواهم
أتراه كذلك لأنك تربض خلفه ؟
أتراه قرر أن يكون عنيدا لأنه يريد أن يشبهك ؟
البارحة مربي صوت : أنت مستحيلة يامريم ، كالسلام في الشرق الأوسط
سرى صوته الذي أعرف والذي أحب طاف روحي المأهولة بالشوق الحاد ، كان خاشع كقسيس
لم يغادر قطعة من جسدي إلا وقرأ عليها أسفاره لم يكن أي منها سفرا للخروج
الخروج منه الخروج من حنيني المتواطأ معه الخروج من كل ذاكرة له ومن كل طريق لا يؤدي في النهاية إلا إليه
جاء صوته سفرا للخلود
أكنت مستحيلة حقا ؟
أم أنه خلق هذا الإطار ليكون جاهزا للاستعمال حين تكتمل الصورة المناسبة لرحيله
تراه أراد إقناعي باستحالتي لأصدق هذا الدور أتقمصه وأشرع بالنضال دونه
تراه كان ينسج كفنا أبيض يعده بعناية لإنقلاب تاريخي أبيض ؟
إنقلاب على الشوق على المشاعر وعلى ماتبقى من حلم
عاد صوته إذن
عاد ليعيد لي العمرالمسروق
عاد ليربت على قلبي
عاد ليهمس في أذن الروح أن أبلعي ظمأك وغيض الجرح
عاد صوته من المنافي لكن الوطن لم يكن جاهزا لاحتضان أبناءه
عاد ولم أكن بعد مستعدة لأن أسترد نسختي الأولى
وكنت قبل ذلك احتاج أن أستعير قدمان إضافيتان لأقف في وجه غيابه
أما الآن فأنا أقاتل من أجل أن أبقي قدماي في المربع الأقصى
عاد لأمنحه التشييع الأخير
لأضع آخر المراثي على ضريحه الأثمن
عاد لأن نخبا أخيرا بانتظاره
نخب الربيكون
نخب الكلمة الأخيرة
والوجع الذي لا آخر له
عاد يحمل في وجهه ملامح الصغار وفرحة الصغار
لكنني كنت وقتها قد هرمت

ربما كان يجب علي حينها أن أغني مثلا أو بشكل أكثر بساطة أبتسم - أي شيء أي شيء - يبدد هذه اللحظة البليدة 

كل ماحدث أنني فتحت مذكرة فارغة كجيوب الكرماء وشرعت أكتب
أكتب عنه عن عينيه الممتلئتان بالشوق عن صوته المحشو بالحياة عن تبغه عن وجعي وفجيعتي به
وحين سأل أهذا الوقت للكتابة ؟
صمت ، كان بودّي لو قلت أني أحاول استبقائه فقط ووحدها الكتابة من تمنحني هذه اللحظة الأسطورية .

                                                              2015