د. علي بانافع
قبل أن أتكلم عن أهمية مبادرة خير أمة ودورها، لعلِّي ارجع للسيرة النبوية، فإذا كان الجمال يصدم العيون فالقيم تمتلك القلوب، حينما أراد الله وصف نبيه لم يصف نسبه أو ماله أو شكله بل قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم4]، ألا ترى ما كان عند العرب من قيم عالية جعلهم الله محل رسالته، فبعث فيهم واصطفى منهم خير الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة قال: ((يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)) [سنن الترمذي: 2485].
فثلاث للمجتمع وواحدة للفرد، ثلاث تركز على القيم الاجتماعية وواحدة على القيم التعبدية، إذ لم يمض على وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة غير قليل، حتى جمع المهاجرين والأنصار واليهود، وكتب كتاباً هو بمثابة حلف أو عهد أو وثيقة، ولعله في لغة هذا العصر دستور بل أول دستور من نوعه عرفته العرب، ومن اعجب الأمور أن زعامة الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يرتضها المهاجرون والأنصار فقط، وإنما ارتضاها اليهود، لأن الكتاب تكفل لهم بحريتهم الدينية، وجعلهم حلفاء للمسلمين، ويحتكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل حدث أو شجار يخاف فساده.
لكن الواقع تغير والحياة تبدلت، إذ لم يأت زمن فيه استهانة بكل شيء، بداية من القيم والأخلاق مرورا بالأرواح حتى الثوابت كزماننا هذا، كل شيء أصابته لعنة الاستهانة والاستسهال، لذا لا عجب أن ترى مظاهر الخواء والتفريغ لكل شيء، إن مجتمعاتنا أصيبت بقلة وضعف القيم، ونحتاج لوسائل دينية وتربوية وأخلاقية لعودة القيم لها، إذ لا أحد ينكر أن القيم تنهار يوما بعد يوم، خاصة مع تنوع وسائل التواصل الاجتماعي ومع صعوبة الحياة؛ وسعي البشر نحو رزقهم قلت القيم التربوية، رغم أنّنا نشهد رجوعا للدين وتمسكاً به -ولله الحمد- لكن القيم أصبحت ضعيفة: كقلة الذوق، وانتشار الأنانية، وضعف الإيثار ...إلخ، حتى مع انتشار الدين فيوجد صنف مستقيم من جانب الدين، لكن قوة القيم عنده ضعيفة، لقد أدركنا جيل الآباء أقوى ديانة وأكثر قيما، عكس هذه الأيام، هذه الظاهرة التفت إليها أمير منطقة المدينة المنورة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان، بمبادرة خير أمة لتعزيز القيم والأخلاق، ليصبح المجتمع المديني أنموذجاً يُحتذى به في هذا المجال، وينبغي أن يلتفت معه الدعاة وأهل الفكر فضلا عن أهل العلم، ويعيدوا نشر القيم مع الدين من جديد فالأرض التي يوجد بها الدين من السهل أن يُعزز بها القيم.
شبابُنا يحتاجون إلى ترسيخ القيم والأخلاق، والمبادئ التي استقيناها من قرآننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، والتي توارثناها عن آبائنا وأجدادِنا من توقير الكبير، أيًّا كان ذلك الكَبيرُ في السنّ، أو في العلم، أو في المكانة والمكان والمقام، باختيار مفردات التعبير، وانتقاءِ أساليب حُسن التعامل، فالوصول إلى الهدف يحتاج إلى صبر، وربما نصل لشيء قريب من الهدف، المهم أن يكون هناك هدف وخطة، (سددوا وقاربوا) والتوفيق من الله سبحانه وتعالى، أما أن لا يكون هدف ولا خطة، ونطلب وصول الأمل بالدعاء، فهذا لم تأمر به الشريعة، فإيصال السلوك أو الفكرة أو المعلومة إلى المتلقي، تحتاج إلى لباقة وحسن سياق ولمسات تواضع، سواء كانت أقوال أو أعمال أو أفعال، وإلاّ كانت فَجاجَة وغِلظة واستعلاء، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
من مبادرة خير أمة، جاء دور ثانوية ابن حزم بينبع الصناعية، برعاية القائد التربوي الأستاذ الخلوق: طاهر بن عطيه الغامدي وفريقه المميز، في تعزيز هذه المبادرة بمبادرة جديدة بعنوان: (بذوقي أرتقي) وتسعى لتعزيز الذوق الرفيع ونشره بين الشباب، في المدرسة، في البيوت، في الأسواق، في المساجد، في الأماكن العامة، ويهدف إلى احترام واحتراف الذوق العام وتعزيزه بين الشباب بالذات، فكثيراً ما يقرأون هؤلاء الشباب، بل ويكتبون -أحياناً- عن الذوق والقيم والأخلاق على المستوى النظري، لكنها صعبة التطبيق على المستوى العملي، ولن يتأتى لهم ذلك بغير القدوة الحسنة، فإن تأثير الفعل أعظم من تأثير القول، والحقيقة أنَّها مسؤوليةُ المربين والمعلمين والقادة التربويين؛ فالمتابع للحركة التعليمية يجد غياب ظاهر للتربية العملية، وتلقين المعلمين القيم والأخلاق متزامنا مع العلم؛ وهو المقصد الأعظم من تعلم العلم ونشره، وهذا ما يجعل الشباب في فصام مع العلم طوال تلقِّيه وتعلُمه؛ فَالْعِلْمُ رَوحٌ تُنْفَخُ لا نُصوصٌ تُنْسَخُ.
فاللهم حسّن أخلاقنا وأذواقنا واجعلنا على أثر سيد الأنبياء وأفضل المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الذي قال: (ما شيءٌ أثقلَ في ميزانِ المؤمنِ يومَ القيامةِ مِن خُلُقٍ حسنٍ، وإنَّ اللهَ يبغضُ الفاحشَ البذيءَ). [صحيح الترغيب: 2641].