الرئيس الشهيد ..!

" ماذا سيكون جوابي إذا ما سُئلتُ يومَ القيامة لِمَ لَمْ أحكُم بالشريعة الإسلامية " .

بهذه الكلمات المؤثرة ، وفي كلمةٍ ألقاها قبل مقتله بأقلّ من شهرين .. هكذا تلفّظَ الشهيدُ الرئيس !

إنّه : محمد ضياء الحق محمد أكرم – عليه شآبيب الرحمة والمغفرة والرضوان - .

عرفتهُ في الصغر من خلال التلفاز السعودي ؛ إذْ كان كثير الأداء للعمرة ، وزيارة البيت العتيق ... هذا مع محبةٍ خاصّة يُكنها لهذا البلد : أرضاً وحكومةً وشعباً .

وعرفته كبيراً من خلال مطالعاتي عنه ، وتتبعي سيرته العطرة .

باكستان – وتعني الأرض الطيّبة والطاهرة – هي الحليفُ الاستراتيجي للمملكة العربيّة السعودية في عهده .

وباكستان ضياء الحق هي التي احتوَت البحريّة السعودية - حين لم تكن لنا كليات عسكرية بحرية !

وهي باكستان ضياء الحق التي وضعت تحت تصرفنا كامل خبراتها الميدانيّة والعسكريّة ، نأخذ ما نريد ، وندع ما نريد !

باكستان ضياء الحق التي كانت تحسب لها دولة المجوس " إيران " ألفَ حساب ؛ في حال أن اعتدت على أمن البلاد المقدسة !

وباكستان التي كانت ولا زالت ترفض مدّ علاقةٍ من أي نوعٍ مع العدو الصهيوني – في حين مُدّت هذه اليد من قِبَل كثير من العرب !

وباكستان : ضياء الحق !

" من مأمنه يؤتى الحَذِر " : ومن خلال هذه " الحكمة " جاء ضياءُ الحق إلى الحُكم ، وبسببها خرَجَ منه – كما سأُبين - .

في خُطوةٍ مُفاجئة ، قام الرئيس الأسبق " ذو الفقّار علي بوتو " بتعيين الجنرال " ضياء الحق " قائداً للجيش ، في تجاوزٍ واضحٍ للعُرف العسكري ؛ إذْ كان هناك من هو أقدمُ في الرتبة العسكريّة من ضياء الحق ( خمس جنرالات ) !

كان هدف بوتو – وهو والد بنازير بوتو للمناسبة - أنّهُ وجدَ في شخصيّة ضياء الحق الأمان الذي ينشدُه ؛ فهي شخصيّة مُسالمة هادئة ، محافظة على الصلاة ، وتلعب " الغولف " ، كما أنها محبوبة عند الجيش ، الأمر الذي طمأن بوتو ألاّ تهديد سياسي منها ، ولم يدرِ " بوتو " أنّ منيّته كانت في أُمنيته ، وأنّ قرارَه ( موته ) قد كان في قرارِه ( المرسوم الذي أصدره ) ... ومن مأمنه يؤتى الحَذِر !

كان حُكم " بوتو " مليئاً بالفساد الإداري والمالي – مثل ابنته بنازير تماماً – وكانت الاضطرابات تعجُ في باكستان ؛ مطالبة برحيله أولاً ، والانتخابات ثانياً ، وتطبيق الشريعة الإسلامية ثالثاً ( هذا التدرج زمني فقط ) .

فاستغلَّ ذلك " صقر باكستان " ليقوم من فوره بانقلابٍ أبيض ، أطاح من خلاله بـ " ذو الفقّار علي بوتو " ومن ثم قدّمه للمحاكمة ، ثمّ إلى المقصلة تتأرجح جثته فوقها ... وطويت بذلك صفحةٌ سوداء ؛ لم تستسغها الأرض الطيّبة الطاهرة " باكستان " .

واستلم " البطل " زمامَ الأمور في زمنٍ صعب ، ووضعٍ حرج ، مع اختناقات سياسية إقليميّة ودوليّة ... إلاّ أنّه مع ذلك قد حقّق الكثير من النجاح وسطَ كثير من المعوقات والدسائس .

فالهند جارهُ اللدود الذي لا يألوا جهداً في الكيد له ، وحليفتها ( روسيا ) التي رأت – فيما بعد – أنّ ضياء الحق قد حارب بالوكالة عن الأفغان وأمريكا ، وإيران التي لا تتمنى الخير لأحد .. وترى دم ابنها الشيعي " ذو الفقّار بوتو " في رقبة ضياء الحق ، وأمريكا التي تدعمه حتى حين ( ! ) .

هذا في الخارج السياسي ، أمّا عن الداخل ، فقد عانى – رحمه الله تعالى – معاناةً لم يسلم فيها من أحد - حتى من " الإسلاميين " الذين لاموه ونالوا منه ؛ لأسباب كان منها : الاتجاه نحو أمريكا ، وطول النفَس مع الشيعة ، والتراخي وعدم الجديّة في تطبيق الشريعة الإسلاميّة .

ولذا ؛ فإنّه لا غرابة أن توصف سياسة الرئيس الشهيد ، بأنّها " مُترنحة " !

إلاّ أنّ الحقيقة الساطعة ، والقول المنطقي هو أنّ الرئيس " ضياء الحق " كانت له طاقة سياسيّة لا يستطيع تجاوزها ، وسقف سلطوي لا يُمكنه اختراقه ؛ فقد كان يُحاربُ في الداخل والخارج : بحراً لجيّاً من المتناقضات والمُتشاكسات ، وجبهات كانت لا تعرف الهدوء ولا السكون .

ومع كل هذه الهموم والغموم ؛ إلاّ أنّه أعلن ميلادَ البدء لأول قنبلة ذريّةٍ إسلاميّة ، وكذلك فقد قدّم للجهاد الأفغاني ضد روسيا كلّ إمكاناته وقدراته ؛ ولم يخذل المجاهدين أبداً - حتى بعد توقيع معاهدة " جنيف " ، وزادَ على ذلك بحضوره الإسلامي الفاعل من خلال وساطته إيقاف الحرب الإيرانيّة العراقيّة ، وكذلك من خلال زياراته المُتكررة للمملكة العربيّة السعودية ؛ كإعلانٍ منه عن خطه الأصيل الذي لا تبتره دهاليز السياسة ولا تقطعه .

فسارَ على خطين متوازيين ، جمعَ فيهما بين الاتجاهين المتضادين : الإسلامي والأمريكي !

فهو – رحمه الله تعالى – لا ينحرف عن أصله ، وفي نفس الوقت لا يستطيع الاستغناء عن العنصر الأمريكي ؛ لأسباب يطول شرحها .

ومن مأمنه يؤتى الحذر ... تارةً أخرى !

كان " ضياء الحق " يعلم بأنّ مهمته قد انتهت بالنسبة للأمريكان ؛ فروسيا قد مُرّغ أنفها على ثرى أفغانستان ؛ تماماً كما مُرّغ أنف أمريكا في " فيتنام " !

والاتجاه الإسلامي عند ضياء الحق - مع الطموح العسكري لديه ، لا بدَّ لهما أن يقفا عند حد ، وهذا الحد هو رقبة ضياء الحق !

كان ضياء الحق يعرف هذا كله ؛ ولذا فلا مناص من أن يُعلن توجهه إلى الله ؛ فالأعمار بيده وحده ، وليفعلوا - إن استطاعوا - ما يُريدون !

فكشفَ حينها عن وجهه الإسلامي دون خوف أو تردد أو وجل !

وعليه ؛ فقد كان - رحمه الله تعالى – حذِراً جداً ، ومن أسباب حذَرِه : أنّه كان يصطحب السفير الأمريكي معه في كل تنقلاته أو جلّها تلكم الفترة ؛ لعلمه في ذلك أنّ الأمريكان لن يضحوا بسفيرهم على سهولة !

ولكنّ مصلحة أمريكا فوق رجالها ؛ ليُعلنَ رسميا – فيما بعد - عن تحطم طائرة الرئيس الباكستاني " ضياء الحق " وعلى متنها السفير الأمريكي ( أرنولد رافيل ) وكذلك الملحق الأمريكي لشؤون الدفاع ( هربرت واسوم ) ؛ ولتحترق جميع هذه الجثث دون تمييز ؛ إلاّ مُصحف " ضياء الحق " الذي كان في جيبه يلقى به ربه – إن شاء الله تعالى - .

لا حذَرَ مع قدَرٍ يا ضياء ؛ وعزاؤنا أنّك شهيدٌ عند ربك إن شاء الله تعالى .

وطويت بموت هذا الرجل ، صفحةٌ مثيرة من صفحات التأريخ السياسي لباكستان هذا العصر .

آيدن .