يقول نيتشه: "لا زلنا نأخذ شرارتنا من هذا الحريق الذي أشعله إيمان له من العمر ألف عام، هذا الإيمان المسيحي، الذي كان أيضًا إيمان أفلاطون، بأن الإله هو الحقيقة، وأن الحقيقة إلهية"
الحب، الفردانية، سيادة الدولة، الذات، القانون، الحرية،الكرامة الإنسانية، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، العمل الخيري والإغاثي، القيمة المتميزة للإنسان .. إلخ، كلها مفاهيم مسيحية الأصل والمنشأ، استوردتها المنظومات الإنسانوية، وعلمنتها، أي فصلتها من البعد الديني (الأخروي) وربطها ببعد دنيوي مادي.
الحضارة الغربية اللادينية هي في حقيقة الأمر، انتصار للأخلاق المسيحية على المؤسسة الدينية المسيحية (الكنسية) والتقاليد الوثنية، لكنه لم يحدث، رغم غرور الإنسان الغربي واعتداده بذاته وحرياته وعقلانيته أن انفصل، ولو للحظة، عن لاهوته، إذ لا يمكن للإنسان أصلًا أن ينفصل عن لاهوته ولو حاول ذلك، فالتجربة اللادينية، هي تجربة مسيحية معلمنة، تجعل المسيح الإنسان، محل المسيح الإله، لا أكثر ولا أقل.
كما يقول كارل شميت: "ليست العَلْمَنة في جوهرها أكثر من عملية نقل الإيمان الإنساني من الحيز اللاهوتي إلى أحياز أخرى، وليست العلمانية التي نحياها اليوم كرؤية عامة للعالم حصيلة قطيعة جذرية مع الإيمان الديني الغيبي كما يدعي لنفسه، بل إبدالًا للمضامين الإيمانية بحيث باتت تتعلق بعالمنا المباشر؛ إذ إنه من الممكن أن يتحول ما هو في اعتبار الإنسان مرجعية مطلقة وأخيرة، وأن يُستبدل الله بعوامل أخرى أرضية ودنيوية. هذا ما أسميه علمنة"
هذا الكتاب جميل في مناقشة مسألة "تأليه الإنسان"، واستيراد مفاهيم معينة من المسيحية وعلمنتها، لتناسب السياق الفرداني الحداثي وتعطي حياة الإنسان معنى والذي يثبت أن بحث الإنسان عن المعنى، لن يتوقف، فقط سيتنقل بين موضوعات، وهذه الموضوعات كلها، في حقيقة الأمر، بحث عن الألوهية، لكن كما كان يفعل الوثنيون، يفعل اليوم أبنائهم في أوروبا، بتحويل موضوع المعنى، من الإله، إلى الإنسان، سواء تجلّى ذلك في صنم من العجوة، أو في تقنية مادية، ومفاهيم ذهنية من عيّنة : الحرية الفردية، والكرامة الإنسانية، وحب الآخر، وحب الذات، والضمير، والقانون وسيادته، والديمقراطية، ومنظومة الحقوق الطبيعية .. وغير ذلك من مفاهيم.
يبقى الإله حاضرًا كاحتياج، والفرق هو أي إله تتخذ؟
"أرأيت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلًا؟"
موت الإنسان أم موت المعنى؟
يبدأ لوك فيري مع سؤال الموت، إذ الموت هو استثناء الحياة، هو الذي يعرّفها، وبالتالي، فالسؤال عن الحياة، هو السؤال عن معنى الموت بشكل معكوس، وهذا هو بالتحديد، سرّ التفوّق الديني على كل الفلسفات العلمانية، إذ أنه يجيب على السؤال الاستثنائي الأهم، فالفلسفات العلمانية الأرضية تجيب على سؤال الحياة، لكنها تتجاهل، عن قصد بالطبع، سؤال الموت ومعناه.
وبالتالي فمفهوم كـ"الاحتضار" و"فراش الموت"، هي مفاهيم مفزعة جدًا للإنسان الحديث، فهو يفضّل الموت العاجل السريع على أن ينتظر الموت، عكس الإنسان التقليدي، الذي يمثّل له "فراش الموت" فرصة لترتيب الانتقال إلى "عالم آخر" - هذا عام في بني آدم قبل المجتمع الصناعي، اللادينية والإلحاد كرؤية كونية عامة اختراع حديث كليًّا -
طبعًا، مع المجتمع الصناعي أيضًا، جاء "احتقار الشيخوخة" كرؤية عامة مسيطرة، فالشيخوخة، التي كانت تساوي الحكمة والتسامي الروحي قديمًا، صارت عبئًا غير مفهوم لدى الإنسان الحديث، الذي يعبد إلهًا اسمه "الكفاءة والإنجاز" كما سيبين فيري لاحقًا في الفصل الأخير.
الخوف من الموت، واحتقار الشيخوخة، هي سبب الصحوة غير المألوفة في مستحضرات التجميل، وعمليات التجميل، وتغيير الجسد، التي يضجّ بها عالمنا اليوم.
وبالتالي، لفشل العلمنة في الجواب عن هذا السؤال، فقدت كل الأنشطة الحياتية معناها الكلّي، نعم، هناك معنى لقيامك في الصباح وذهابك للعمل، لكن ما معنى هذا المعنى، ما الغايات الكبرى التي تقف خلف كل هذا؟ وهذا السؤال، الظامئ المستلهف، يلفّ حيرانًا دون دين بالطبع.
وهو ما أدى إلى أمرين مهمّين على الصعيد العلماني:
أولًا: مولد الطوباويات، التي تعد بـ"الخلاص الأرضي" أو "الفردوس الأرضي" الذي سنعيش فيه جميعًا ما أن تحقق أيدولوجيتنا نفسها واقعيًا، هنا نلاحظ عملية "العلمنة" التي تمّت لمفهوم "الآخرة" الديني.
ثانيًا: إعادة تصميم البوذية وإعادة اكتشافها وغربنتها، أي تحويلها إلى فلسفة متماشية مع الحالة الغربية، فـ"ليس من هضاب التيبت ولا من مياه نهار الغانج يعود بوذا للظهور، وإنما من مياه المحيط الهادي" ، استوردت البوذية لتخبر العالم الغربي شيئًا واحدًا: "اللاأمل، اللامعنى، تجاهل الأسئلة والتركيز في التوّ واللحظة، في الهنا والآن، هي الطريقة الوحيدة لتحصل على حياة سعيدة، لقد تم استيراد فلسفة روحية لقهر سؤال المعنى، طبعًا فكرة تناسخ الأرواح البوذية، مهمّة جدًا لأولئك الذين لا يرغبون في الإيمان بالبعث والحساب، فهذا التناسخ، الاتحاد، الحلول في الكون المادي مرّة أخرى، هي الطريقة التّي يفضّل بها شخص لا يؤمن بالسرديات الدينية أن يموت.
(من أول من انتبه لعلاقة البوذية بالعدمية الغربية وسقوط المسيحية: نيتشه - ومن غيره؟ :) - ، حيث يقول في "إرادة القوّة"، في تقدمته "للعدمية الأوروبية":
1- بادئ ذي بدئ، من الخطأ عزو [العدمية] إلى اضطراب اجتماعي أو انحدار نفسي، أو حتى للفساد، فهذا العصر هو أكثر العصور نزاهة ولطفًا، إن المعاناة والمصاعب سواء كانت جسدية أو نفسية أو فكرية، هي وحدها لا يمكن أن تؤدي لهذا الصعود المتسارع للعدمية، لهذا الرفض الراديكالي لكل الأشياء ذات القيمة، أو ذات المعنى، أو التي تكون محلًّا للرغبة، إنما كان هذا الصعود بسبب تجذّر تأويلات مختلفة، تحديدًا، وبشكل خاص، التأويل الأخلاقي المسيحي للعالم.
2- تأتّى سقوط المسيحية بسبب رؤيتها الأخلاقية، التي لا يمكن بأي حال أن تنفصل عن المسيحية ذاتها، والتي بسببها رفضنا إله المسيحية، إن إحساسنا بالحقيقة، الذي طوّرته فينا بشكل قوي المسيحية، ووجه بكل هذا الكذب والخطأ والنفاق الذي تعجّ به التأويلات المسيحية للعالم والذي يمتلئ به تاريخها -أي المسيحية- وهكذا انتقلنا من من الإيمان المتعصّب بأن "الله هو الحقيقة"، إلى العكس تمامًا، إلى الإيمان المتعصّب بأن "كل شيء عدم" ، "كل شيء خاطئ"(*) لقد انتقلنا إلى "بوذية إيجابية"
3- الشكّ في الأخلاق المسيحية هو العامل الحاسم هنا، فقد فقد التأويل الأخلاقي للعالم كل تبرير ممكن لوجوده لأنه دائمًا وأبدًا يحيل إلى "متعالٍ/كيان متجاوز" ، وهذه الإحالة عندما تنهار، توصلنا فورًا إلى العدمية، إلى أن نقول: "كل شيء بلامعنى".
عندما ننفق مجهودًا هائلًا في محاولة تأويل أخلاقي للعالم، ثم يثبت بعد ذلك كونها غير عملية، فإنها تؤدي بنا إلى الشك الكامل في كل محاولة تأويل أخلاقي أخرى، واعتبار كل هذه المحاولات خاطئة من البداية، والنتيجة هي هذا الميل البوذي، هذا الانتماء والحنين إلى "اللاشيء" .. إلخ.
(*) من الاعتقادات البوذية الأساسية أن الحقيقة الموضوعية الخارجية وهم وأنها كلها عوائق نحو الحقيقة الكلية الداخلية الذاتية، وهو أمر يشيع في ممارسات التصوّف عمومًا، بدرجات مختلفة وحسب الرؤية الدينية لكل ممارسة.
(**) نيتشه يرى أن الفكر الأوروبي سقط في العدمية السلبية أو البوذية الإيجابية (لا معنى لشيء ولا يوجد شيء ولا يوجد حقيقة .. إلخ)، لأنها لا زالت تبحث عن "تمثل أخلاقي مسيحي"، وهو هنا لا يقصره على المسيحية، فهو يرى أن إيمان الفلاسفة هو تمثّل أخلاقي من نفس الجنس، إيمان سقراط وأفلاطون وسقراط وهكذا، بأن الحقيقة إلهية/متجاوزة، وهو وصف "كانط" مثلًا بالمخادع لأنه يحاول تأسيس "تمثّل أخلاقي نسكي"، دون اللجوء للمتعالي/المتجاوز المسيحي، فكأنه يقول له: لن تخدعنا، فهذا غير ممكن دون السقوط في العدمية أو عكسها التمثّل الأخلاق المسيحي الصرف، وهو ما أثبته واقع الفكر والحياة بعد ذلك.)
استتبع موت المعنى، موت ثنائية اللاهوت والأخلاق، فالأخلاق اللاهوتية، هي الأخلاق الوحيدة التي تخرج من الحيّز الشخصي/الحياة الخاصة، لتعطي للوجود العام صبغة أخلاقية، وبالتالي، كانت هناك أسئلة أخلاقية ذات إجابات بدهية، اضطر الإنسان اضطرارًا أن يعيد الإجابة عليها، من منطلق إنسانوي، لا مرجعية متعالية له، وهو أمر يثير من التساؤلات أكثر مما يثيره من الإجابات التي في نهاية الأمر، لا تتسم بأي نوع من القطع أو النهائية، فهي دائمًا وأبدًا محل تساؤل فردي، وهنا حدثت علمنة أخرى لمفاهيم مسيحية، والتي أهمّها : الحبّ، والتضحية وذمّ الانانية، وهذه الأخلاق، تقدّم نفسها، عمومًا بأنها "متعالية على الحياة"، أي: يحسن التضحية بالحياة من أجلها. وهذه العلمنة، كانت مصدرًا لحنق نيتشه الدائم، يقول نيتشه: "لقد تخلصوا من إله المسيح، وأصبحوا يعتقدون وليس دون مبرر إذن أنه ينبغي عليهم الآن أن يظلّوا متمسكين بالأخلاق المسيحية"
ولكن هذا ضروري ليحال على "متعال"، لأنه بدون التعالي، بدون هذا الشيء الذي يتجاوز قيمة الحياة نفسها، يستحيل أن يعيش الناس معًا وأن يلتزموا بأي قانون يتجاوز مصلحتهم الأنانية الفردية، بدون معنى متعالٍ للأخلاق، تفقد عمليتها، وتصبح العلمنة سيرورة تدمير ذاتي، تأكل نفسها بنفسها، وهو ما ووجه بأساليب مختلفة، منها على مستوى فردي اختراع الحب، ومنها علمنة التضحية، ومنها اختراع القومية، ومولد الطوبيا، وغيره، ولهذا يقول لوك فيري: "دون أن ينمحي، فإن مضمون اللاهوت المسيحي لم يعد يأتي قبل الأخلاق لتأسيسها في الحقيقة، وإنما بعدها ليعطيها معنى.
علمنة المفاهيم الدينية، البروتستانية تنتصر على الكاثوليكية.
من نتائج حركة العلمنة، هو محاولة الرموز الدينية المسيحية تركيب المضامين الدينية على مفاهيم ذهنية حديثة، فالحرية الفردية مركّب لا تعرفه الكنيسة الكاثوليكية أصلًا، لكن نجد البابا يتحدّث عن دعم الحريات، وعن دولة القانون، وعن "التأويل الفردي" للإنجيل، وهي بالطبع مفاهيم ذهنية بروتستانية، علمانية في جوهرها، والتي فتحت باب التأويل هذا على مصراعيه لكل متلقٍ للإنجيل.
بالطبع ليس البابا فحسب، فهو في النهاية أكّد على مضمون إيمانه الديني، أن الحقيقة الأخلاقية إلهية المصدر، وأن حرية الضمير وحدها لا تقود إليه، لكن أنسنة رسالة المسيح بدأت بالفعل ودون إذن البابا، ليحافظ المسيحيون الحداثيون على إيمانهم، وأصبحت أغلب خطابات التديّن المحافظ هي خطابات توحي بأن الإيمان الديني، وقصصه، ورسائله هي رمزيات، يمكننا تأويلها بما يوافق "روح العصر"، وهكذا.
وفي هذا الإطار جرت محاولات عدّة للقراءة الرمزية لقصة المسيح، من الميلاد إلى الصلب، وكذلك قصة الخلق.[هذا التيار ينتشر بشدّة الآن في أوساط المحافظين، الذين قطعوا علاقاتهم بالكنيسة منذ زمن بعيد، بل وبالإيمان الديني نفسه، لكن في ظل "أسطرة" هذا الإيمان وهذه القصص الدينية، لتقدّم لنا معنى مشترك للخبرة البشرية، دون أن تكون "دينًا" له تعاليم وتقليد إيماني مغلق.
وكذلك له أصول في مدرسة التحليل النفسي، خاصة عند كارل يونج فهو يجعل الكتاب المقدس المسيحي، ضمن مجموعة أساطير أخرى لعدد من الأمم أحد أسس تحليلاته]
لم تقتصر علمنة التديّن على أسطرة القصة الدينية، بل اخترع العصر الحديث شيطانه، فبالتخلّى عن الدين، لم تزدهر الأرض كما كان متوقعًا، فقد عمّ الفساد المكان، وأصبح القتل والحرق الاغتصاب والابتزاز والفوضى الأخلاقية قانونًا عامًا بفعل حروب الرجل الأبيض المتنوّر، والآن، ماذا نفعل مع هذه الآثام بعد أن ذهب الشيطان؟
لقد حلّ الشيطان في الإنسان كما حلّ فيه الإله، كما يقول روسو: "أيها الإنسان لا تبحث بعد اليوم عن المسئول عن الشر، فهذا المسئول هو أنت نفسك!" ، لكن "نزع السحر عن العالم" كما يصفه فيبر يعني أن كل شيء عقلاني رشيد، وإذا كان الإنسان عقلاني رشيد، فأين هذا الكيان المسبب لكل هذه الشرور التي -فيما يبدو لرجل حديث- لا تنتمي لعالم العقلانية [في الحقيقة فالشرّ هو أكثر الأشياء عقلانية على الإطلاق، أكثر شيء عقلاني - بالمعنى الحداثي للكلمة - فهو أناني مصلحي يخدم الأقوى ويضمن بقائه، ولا تقف في وجهه أية ميتافيزيقا، فليت شعري أي شيء هو العقلاني إن لم يكن الشرّ المحض؟] = غياب الكيان الشخصي، الممثّل في الشيطان، الذي تنسب له الشرور في المنظومة الدينية، أدّى لظهور عقلية يدعوها لوك فيري "خطاب المحامي"، وهو خطاب يختزل الشرّ في "سياقه"، [من هذا الشيطان الحديث خرجت أغلب الرؤى السياسية خاصة اليسارية الحديثة تحديدًا، فالكلّ ضحية الكل، ويجب الموافقة على أفعال الجميع، فهم في نهاية الأمر نتيجة سياقية، ليسوا أشرارًا في أنفسهم]، فمجرم الحرب، إيخمان، في نهاية الأمر، لم يكن سوى ضحية لكيان هلامي هو "النظام"، وهذا المجرم هو في النهاية ضحية ظروف نشأته، أو القمع الذي تعرّض له، ويجد المحامي نفسه ابن وفيًا للسوسيولوجي والسايكولوجي، فهي أدوات "دنيوة" الشيطان، أي إنزاله إلى المكان والزمان والمادة، وإخراجه من حيزه الشخصي لوضعه في الحيز السياقي، فكل خطايانا في النهاية حدثت لسبب "عقلاني"، كأي شيء في العالم! (أليس كذلك؟، طبعًا ليس كذلك، فالعالم مجنون، لكن هذه هي الحداثة على كل حال)
ومن هنا: انفصل الواقع عن الأفكار، فالمجرمون بالطبع لا أحد يطيقهم، لكن وجب علينا، من ناحية تربوية، تنبي خطاب المحامي عمومًا، وبالتالي أثّر هذا على الإطار القانوني فجرّمت عقوبة الإعدام في كثير من الدول، وابتذل الشرّ واستتفه، واختفي كعدوّ للإنسان يسعى لتجنبّه بطلب الحكمة، فهو في نهاية الأمر "منتج خارجي"، لا يمكن بأي حال نسبته لأحد، فأين هو إذًا؟
(بالمناسبة، هذا الخطاب، هو الهدف الأساسي للتيار المشهور باسم "الحتمية البيولوجية"، فهو يهدف إلى إثبات أنه في النهاية، كل شيء إما جيني أو بيئي، وانتهى!، وقد ظهرت العديد من الحتميات في غير مجال العلوم الطبيعية كذلك، كالحتمية الجغرافية، والطبقية، وغيرها)
هذا "التسامح العام مع المجرمين" (وهو بالمناسبة مفهوم راسخ في المسيحية كما نعرفها اليوم، ولذا أقول: العلمنة هي انتصار المسيحية على الكنيسة لا أكثر)، قاد إلى تحليل هتلر، كديكتاتور ضعيف، عاجز نفسيًا، من المذنب إذًا؟، إنه "النظام"!، وهي طريقة لطيفة لنقول أنه "لا أحد".
لا تختلف شيطنة السياق، عن شيطنة اللاشعور والغرائز الإنسانية التي قدّمها التحليل النفسي، والذي أيضًا يستخدم في الحجج التربوية المعروضة اليوم لشيطنة السياق واعتباره المكان الذي ينبع منه الشر وينتهي إليه.
نلاحظ هنا الثنائية، فبتأليه الإنسان، كان لا بد من نزع الشّر عنه، فالشرّ يوصف بأنه "لاإنساني"، أو "حيواني" - "متوحش"، بينما، ما يخبرنا به التاريخ أن الشّر ليس فقط إنساني، بل مفرط في الإنسانية، ويحيط بنا في كل مكان.
المسيحية تحت قناع إنساني: تأليه الإنسان والحب الحديث.
إن كان الارتباط الأكثر قدمًا على الإطلاق، ارتباط الأخلاقي باللاهوتي، قد تمّ تحتَ مزاعم علمانية التخلص منه إلى الأبد، فما هو شكل الأخلاق، وما هو مكان التضحية -أحد أعمدة الأخلاق اللاهوتية الأساسية، والتي هي نقيض الأنانية وهي مصدر أخلاقيات الواجب-.
تتميّز الأخلاق الحداثية (إن كان في دنيا الله شيء كهذا أصلًا)، بأنها أولًا وقبل كل شيء، ترفض تمامًا أي سلطة تمنح أي قيمة للحسن والقبيح تتسم بالتعالي، فلا ينبغي أن تكون هناك ممارسات حسنة وأخرى قبيحة من حيث المعيار، فكل حقيقة أخلاقية هي حقيقة ذاتية وفقط، إلّا أن نزعة من هذا النوع، مدمّرة تمامًا لكل اجتماع إنساني كما هو واضح، فكان يجب عندئذٍ اختراع مفهوم يتسم بالتعالي، هدف بعيد المنال، يستلزم منّا جميعًا أن نلتزم بالقانون، وأن نقدّم التضحيات، وهذه هي السمّة الثانية لهذه الأخلاق، وجود معيار عام (فوق خصوصي) يوحّد الشعب/الأمة أو أيًا يكن من مسمّى، وهذه الفكرة بعينها هي المستورد الديني في العصر العلماني، أي فكرة وجود واجب مطلق، تتمظهر في جمهورية كانط، أو في النزعات الوطنية، أو في الرؤى التى ترى حتمية الدولة كما عند هوبز. (والفكرة الأولى أيضًا مستوردة من البروتستانية بحذافيرها، كما ترى لا شيء غير معلمن!)، لكن!، بأي منطق غير متعال، يمكن أن تقنع كائنًا "عقلانيًا"، "اقتصاديًا"، يرعى مصالحه الخاص، ويحدد لنفسه كوده الأخلاقي الخاص أن يضحّي بأي شيء؟!، (يقول كارل شميت: "لكن في مجتمع محدد على أسس اقتصادية ينمو نظامه، أي سيره القابل للتنبؤ في حقل من المفاهيم الاقتصادية، لايمكن من أي وجهة نظر انتظارُ أن يضحي أي عضو فيه بحياته في سبيل الحفاظ على سير عملياته الاقتصادية دون تعطيل، إن تبرير طلب كهذا بالجدوى الاقتصادية يتناقض والمبادئ الفردانية للنظام الاقتصادي الليبرالي، كما يتعذر إسناده إلى معايير ومثل اقتصاد يزعم لنفسه الاستقلال، للإنسان الفرد أن يموت طوعًا في سبيل ما يختار، هذا-ككل ما هو جوهري في مجتمع ليبرالي/فرداني- بالتأكيد "مسألة شخصية"، أي شأن متعلّق بقرار الفرد الحر، غير المضبوط ولا التابع لقرار فرد حر آخر"أ.هـ).، فما التضحية إلّا اعتراف من الكائن، الفرد الخاص، بأن هناك متعال يتسامى على قيمة حياته ذاتها، ومن هنا، من هذه المعضلة، تمّت أنسنة/علمنة مفهوم التضحية، لتعيد الحداثة ترتيب التعالي بما يوافقها مفاهيمها الذهنية، فحلّ "الشعب" محل الإله في المفهوم الديني، أو الثورة، أو الديمقراطية، أو غيرها من الفراديس الأرضية، لكن هذه المشاريع انهارت بسبب طبيعة فرضها السلطوي، ولم يعد الإنسان الحديث الموغل في الفردنة -كما حذر شميت في الاقتباس الذي نقلت- مستعدًا للتضحية في سبيل قيم تراتبية، تأتيه من الأعلى، لكن التغيّر الأساسي كان استعداده للتضحية في سبيل "الآخرين"، فما سرّ هذا يا ترى؟
يجيب فيري، فيقول أن السرّ الأساسي هو أنسنة التعالي، أي حلول الإلهي في الإنساني، فبدلًا من البحث عن كيانات متعالية (دين/وطن/قومية/ثورة) لنضحي من أجلها، فسنبحث عن إنسان، فرد آخر نجعله موضوعًا لتضحياتنا الأخلاقية!.
ومن هنا، "اخُترعت" الحياة العاطفية، هل شعرت لوهلة أن لفظ "اخُترعت" لفظ غريب إذا ألحقت به "الحياة العاطفية"؟، حسنًا، لماذا شعرت بذلك؟، "لأن المتخيل الاجتماعي الحديث، ما أن نوجد فيه حتى يبدو لنا أنه المتخيّل الاجتماعي الممكن الوحيد، أو المتخيل الوحيد الذي يحمل معنى" كما يقول تشارلز تايلور، وصدق!، فمن يتصور أن حياة وجدت على ظهر البسيطة كان الزواج فيها خاليًا من لفظ "الحب"، ومن مركباته من عشق ولهفة وغرام وشوق .. إلخ، وعلى أي أساس إذًا كان يتزوّج هؤلاء المتوحشون؟!
حسنًا، يخبرنا مؤرخو الأفكار، أنه قبل عصر الأنوار، أنه لم يكن أبدًا يوجد ما ندعوه اليوم بالـحب، حسنًا، لاتفهمني خطئًا، لقد كان الرجل يحب زوجته وأولاده، لكن أساس الحياة الزوجية لم يكن العاطفة، كما يتصور اليوم، فالحب، العاطفة القوية التي تجمع شخصًا "خلقا لبعضهما" لم تكن ممكنة أصلًا قبل تكوّن الذاتية الحديثة، قبل أن يصير الفرد الحر، هذا الفرد الذي بلا عائلة ولا تقليد ولا روابط اجتماعية ولا دينية من أي نوع، هو فقط الذي "سيقع" في الحب، أما الآخرون قبل ذلك، فقد كانوا يتزوّجون أولًا ثم "يأتي الحب"، فاصطفاء شخص آخر ليكون شريك حياتك، لم يكن معتمدًا على هذا "الوقوع" إلا عندما دخل لأذهان الإنسان الحديث فكرة "الذات" التي تنتظر "ذاتًا أخرى" موجودة في المكان والزمان عالقة تنتظره، من هنا، أُنسنت دوافع التضحية، فالفرد قبل عصر التنوير، كان في وسط جماعة، تضع له دوره النسبي، فهو ليس محور حياته، وترسّخ فيه ضرورة استمرار الأسرة الممتدة وبقائها (أو القبيلة) فضلًا عن أن موته لا يعني سوى انتقاله من عالم إلى عالم لا أكثر، فتضحيته في سبيل ذلك مفهومة، بل وطبيعية جدًا، أما الآن فالفرد الحديث لا يقبل ولا يعيش في نظام كهذا، فهو يحتاج إلى "مقدس آخر"، وهذا المقدس الذي كانت تمنحه العائلة والتقاليد والدين، قد انتقل ليكون "المحبوب"، وهو ما شكّل الأسرة النواة (تلك التي تعشقها الحداثة)، الأسرة التي هي عبارة عن اجتماع لذوات فردية في بيت واحد، وليس أكثر من ذلك!
لا يمكننا الحديث هنا عن "الحب"، دون التعريج على المدرسة الرومانسية التي جعلت أساس كل شيء هو "الحب"، والتي تكرر أدبياتها أن الزواج الناجح السعيد هو الذي يسوده حب اللوعة، والشوق الجارف، وكل العواطف الممكنة، وأنه أولًا وقبل كل شيء، مسألة "فردية ذاتية خالصة"، وهو عكس التصوّرات القديمة، التي اتسمت بأن الزواج لم يكن مبنيًا على أسس عاطفية من الأساس، وأنه لم تكن الدائرة الخصوصية فيه تكتسب كل هذا الزخم، بل كان الزواج أصلًا شأنًا اجتماعيًا في الأساس، وكانت رعاية البيوت كذلك عملًا مشتركًا في وسط الأسرة الممتدة ولا يقتصر على فردانية الزوجين الذي هو النمط السائد اليوم في العالم.
لا يقتصر الأمر هنا على الحب بين الشريكين، بل الحب الأبوي كذلك أعيد تعريفه، بالتأكيد، لن يقول واحد من الناس، أن الآباء في السابق لم يحبوا أبنائهم، ليس الأمر كذلك، لكن الحب الأبوي نفسه أعيد إنتاج مفهومه ليلائم الواقع، ففي عصور قديمة كان الأب هو المقدم، والابن هو المدين له، أما الآن، فتنص كل الأدبيات، وتشددّ كل المناهج التربوية الحداثية أن الابن هو كل شيء، وأن على الآباء تقديم كل شيء من أجل أبنائهم، في علاقة معكوسة بنظام العالم القديم، بالطبع هذا استدعاء لتضحية المسيح بنفسه من أجل "أبنائه الخاطئين" لكن في صورة دنيوية، أي في صورة الابن البيولوجي.
يقول شورتر: "مع نشأة الرأسمالية والإجارة، صار الرجال والنساء مجبرين على الأقل في سوق العمل، على التصرف كأفراد يملكون مصيرهم الذاتي، ومرغمين على استهداف غاياتهم الخاصة ومصالحهم الذاتية، ولقد ترجمت هذه الضرورات الجديدة، بكيفية ملموسة، بواجب التخلص من الانتماءات القديمة" فإذا كان الشخص يتصرّف وفقًا لمصلحته الذاتية في نطاق مجال العمل، فما الذي بالله سيمنعه من تطبيق نفس المبدأ في حياته الاجتماعية والأسرية؟، وهكذا، فإن منطق الفردانية الذي يدخل العلاقات الإنسانية إنما يرفعها إلى دائرة الحب الحديث، الاصطفائي، والعاطفي، والذي سيمنح حياة الإنسان معناها، فهو "غاية وجود الأفراد" (حاول أن تبحث حولك في رؤية الناس للحياة، وفي رؤيتهم بأن ارتباطهم بشريك معيّن هو طريق الخلاص النهائي، هو الفردوس المرغوب، والصورة التي تصدرها السينما عن حبيب يقاتل طول حياته ليظفر بحبيته، ويكون مشهد الظفر هذا، هو المشهد النهائي، المشهد الذي يعبر عن نهاية الحياة، والذي يوحي بأنه قد تمّ بالفعل تحصيل المعنى، وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات، وهكذا.)
أي شيء جناه الإنسان الحديث على نفسه؟، هاهو: عليك أن تبني أهم ما في حياتك - أي معنى الحياة - على تعلق عاطفي عنيف وغير مستقر في أغلب الأحيان، وعليك في نفس الوقت، أن تفقد، وللأبد، هذه المواساة التي كانت يقدمها لك التقليد الديني، وفي اللحظة ذاتها، ستتخلص من كل رابطة مجتمعية كانت تقدم فيما مضى تضامنها الملموس أمام المآسي، فالأفراد الذين تحرروا من الروابط المقدسّة، التي كانت تفرضها التقاليد الدينية والحياة المشتركة، ينبغي لهم اليوم أن يواجهوا صورة غير مسبوقة للعلاقات الإنسانية، صورة الثنائية المنعزلة لزوج مستسلم لذاته، متحرر من الثقل ولكن محروم من إغاثة العالم العمودي للتقليد، إنه "زوج إنساني"، مفرط في الإنسانية ربمّا!، والذي سيجرب سريعًا العلاقة الوثيقة التي تجمع بين الحرية المطلقة وإضعاف السعادة!، فسرعان ما تنطفئ الرغبة أو تستنزف، وعندها ينهار الأساس العاطفي للزواج، ولا يبقى لنا، في نهاية الأمر، سوى طلاقات تعجّ بها أيامنا الحديثة بشكل لم يعرفه تاريخ الاجتماع الإنساني التقليدي قطّ!، هذا بالطبع إن حصل زواج أصلًا من الأساس.
مقدسّات الحداثة السائلة: دعونا نؤمن ولنبقِ هذا سرًا!
كما نقول، المقدّس لم يرحل، لا يمكن أصلًا أن يرحل المقدّس من عالم الإنسان، إنما انتقل فقط في مواضيع إنسانوية لا أكثر، ومن أكثر المقدسّات المنتشرة إثر علمنة المقدس الديني و تطوير المقدّس العلماني الصلب للدولة والثورة: هي تقديس الجسد، وتقديس العمل الإنساني الكوني، وتقديس الفن لذاته، وأخيرًا تقننة السياسية وعبادة الكفاءة والإنجاز.
"جسدي ملكي أفعل به ما أشاء"، يتعرّض الإنسان الحديث لسيل جارف من الأيدولوجيات التي تكرر هذه الحقيقة، والتي يبدو أنها "بديهية" من شدّة تكرارها وحضورها الطاغي، حسنًا، ما يعنيه امتلاك الإنسان لجسده في عالم غابت عنه ميتافيزيقا التقليد، إليك ما فعلناه: يمكننا بمساعدة العلم والتقنية أن نجمّد الأجنة وأن نحقنها وأن نجهضها أيضًا لو أردت، وأن نغيّر الأعضاء ونركّب هذا في مكان هذا، ويمكننا أن نحول الذكر إلى أنثى والأنثى إلى ذكر، ويمكننا تغيير الهوية الإنسانية لكائن إنساني بشكل كامل. هذا يبدو رائعًا من الخارج، إلى أن يبدأ في طرح الأسئلة لكن أي حدّ يمكن أن تقف عنده هذه التحكمات اللانهائية التي صارت رهن إشارة الإنسان، وأي مقاييس تلك التي سوف توقف هذا الزحف الهائل في التلاعب بالجسد المدعوم بالبحث العلمي وميزانيات أغنى الأغنياء؟! ، وأي مستقبل ينتظر الإنسانية إن تحولّنا كلنا إلى "زومبي" بحجة حق التصرّف في الجسد؟!
على الإنسان بعد أن عبد جسده أن يواجه شياطينه بنفسه!
أمّا العمل الإنساني، فيحتاج إلى مقدمّة أولًا، في البداية كانت الثورة هي المقدّس، والثورة تعني موقفًا واضحًا، أي غير محايد، بين معسكرين، وهذه الثورة كانت متعارضة مع فلسفة العمل الإنساني الكوني، فماركس هاجم أخلاق الرأفة التي تجعل الفقراء يرضون بما هم فيه، بينما اعتبر نيتشه أنها تمثّل مسيحي أصلًا لأخلاق الضعفاء، أي حماية الضعفاء من الانقراض، وبغض النظر عن ماركس أو نيتشه، فالثورة، تعني أن هناك مجرمين، لا يستحقون المساعدة عمومًا(تذكر هتاف الجماهير في الثورة الفرنسية: اشنقوا آخر ملك، بأمعاء آخر قسيس)، فلما غاب مقدّس الثورة، ظهر مقدّس الدولة، الذي يعني أن الأعداء، أولئك الآخرين على الجبهة المقابلة، لا يستحقون أي اهتمام بحياتهم، لكن تطوّر المقدس، ليصبح "الإنسانية"، هكذا، كل البشر، هذه هي رؤية الصليب الأحمر الذي يرى أن المعتدين ما أن يسقطوا جرحى في أرض المعركة، فقد عادوا لكونهم بشرًا، أي يستحقون كل عناية كالآخرين الذي يتعرضون لاعتداء مباشر، هذا المفهوم "الكوني" للإحسان، هو بالطبع، وبما لا تخطئه عين، مفهوم مستورد من المسيحية (أحبّوا أعدائكم)، صحيح أن هذا المفهوم المسيحي كان متوجهًا في النهاية إلى "مسيحين محتملين"، وبالتالي حمل العمل الإنساني المسيحي صبغة تبشيرية واضحة، لكنه في النهاية مفهوم كوني، لكن الاختلاف بين المفهوم المسيحي ونظيره العلماني، أن المسيحي يهتم بمقولة "الخير والشر"، بينما يقول العلماني بقول أخلاقي آخر، هو "اللامبالاة"، ليس مهمًا أساسًا ما هو، وأين هو، ومع من الخير أو الشر، المهم هو "الإنسانية"، سنهتم بالكل، طبعًا، الاهتمام بالكل، هو الطريقة اللطيفة لأن تقول: لن اهتم بأحد!، تخيّل أن تزول كل الفروق من أي موضوع ذو معنى، فأي شيء وأي أحد ستختار لتساعد؟، لاحظ أن مفهوم المساعدة يقتضي التضحية بالحياة في سبيل هذه الرسالة المقدسّة إن استلزم الأمر، فهل ستضحّي بحياتك أو ستستعد على الأقل لذلك في سبيل كل إنسان؟، بالطبع هذا من حيث الإمكانية الواقعية مستحيل، وبالتالي، هذه الأخلاقيات الكونية، كونت حزامًا من اللامبالاة، هذا الحزام سيكون مفيدًا جدًا فيما بعد لأغراض أخرى، أغراض "مجتمع الفرجة"، فتحوّل العمل الخيري، من رسالة تستمد قيمتها من المتعالي، إلى "استعراض"، ومن هنا أصبح "موضوع التضامن والمساعدة" بالكامل في يد وسائل الإعلام، التي لا تعمل إلا من خلال "الاستعراض" والمبالغة فيه، فالعمل الخيري اليوم، هو قوة استعراضية تستخدمها المؤسسات الرأسمالية ووسائل الإعلام للترويج لمشاريع مختلفة، سياسية أو أيدولوجية، بينما بعيدًا عن الفرجة، هذه اللامبالاة مفيدة جدًا لأولئك الفاعلين، فبدلًا من البحث عن أسباب معاناة هؤلاء الفقراء أو ضحايا الحروب، وبدلًا من إدانة المعتدي، علينا فقط أن نستعرض بالضحايا، وأن نقدم التبرعات، بشكل مضحك أحيانًا، في "التمهل" تسأل امرأة ميلان كونديرا زوجها عن الصومال وما حصل فيه من مجاعة: "هل هناك شيوخ يموتون أيضًا في هذا البلد؟"، ويأتي جوابه: "لا لا إن ما كان مهمًا في هذه المجاعة، وما جعلها فريدة من ملايين المجاعات التي حدثت على الأرض، هو أنها كانت تحصد الأطفال فقط، إننا لم نر أي راشد يتألم على الشاشة مع أننا نشاهد الأخبار كل يوم، وذلك بالذات لتأكيد هذا الظرف الذي لم يُر قط"، إنه انتصار البلاهة، انتصار اللامبالاة، وانتصار مجتمع الفرجة على مجتمع الأخلاق، ومن هنا انسحب سؤال السياسة من المجال العام، وحلّ محله، فرجة مستمرة تستهدف قلب المواطن المتلفز ومحفظة نقوده بالطبع!، وهذا العمل يستدعي، أكثر ما يستدعي، التأثر، التعاطف، صراخ عاطفي، أكثر من التفكير، فالتضامن الأخلاقي أسهل بكثير من التفكير في مشاكل العالم، أليس كذلك؟
العمل الخيري بديل سهل للنشاط السياسي، خاصة فيما لا يملك الإنسان، بشكل مباشر تغييره أو تكلفة تغييره تستلزم النضال بشكل أكثر جدّية من مشاهدة التلفاز وجمع التبرعات، يمثّل المقدس الجديد، وأخلاق اللامبالاة تلك واحدًا من أعظم الأسباب لتجاهل فهم الأسباب الواقعية والثقافية والتاريخية والسياسية لمعاناة وبؤس الآخرين، وقد يمثّل، في نفس الأمر، تغطية سياسية مشروعة من الفاعلين المتسببين في ذلك لصرف النظر عن أن وجودهم في ذاته هو سبب ما يحدث لهؤلاء المساكين!
(يجادل فيري هنا، ولا أتفّق معه، بأن هذا في النهاية، أي هذا الاستعراض والمبالغة في التصوير وخلافه، كانت اللازمة لإنقاذ هؤلاء، وهي حجة براجماتية في النهاية، صحيح أن هذا أنقذ مجموعة من الناس، لكن النظام الذي ينتج هذه الأحداث لازال مستمرًا، وتفاجئنا دائمًا كوارث من نوع جديد، فما الذي فعله مجتمع الفرجة للإصلاح الهيكلي للعالم؟، قد نجادل أن هذا كان إجراءًا مطلوبًا لحظيًا، لكن المشكلة أن العمل الإنساني، من داخله، يروّج لامبالاة سياسية أصلًا بل ويعتبر أن السياسة والنضال الحقوقي ليس من مشكلاته بالأساس، فهو يعمل في الحقيقة كنوع من المسكّنات للحفاظ على وجود الأسباب الأكثر أساسية وعمقًا للمشكلات، وهذا لا يعني أن نتوقف عن جمع التبرعات بالطبع أو إنجاد المنكوبين، لكن أن نضيف ونستعيد أخلاق الخير والشر مرّة أخرى داخل العمل الإغاثي، كي لا يكون فرجة يتسلّى بها المعاصرون وهم يفطرون على مائدة طعامهم، ويتأثرون بقلوبهم وجيوبهم، ويبيت العالم فاسدًا كما أصبح!، خذ مثالًا على اللامبالاة عمليًا، مسلمي الإيجور مثلًا يتعرضون لضغط وعنف وتهجير هائل وغير عادي، لكن منظمات الحقوق والإغاثات تلك، لا تستطيع أصلًا أن تتدخل في السياسة الصينية أو تنادي بتغييرها، وذلك لأن هذه اللامبالاة تفرض أصلًا تجنّب صراع سياسي، مثل هذا الصراع، خاصة لو كان لأقلية غير مستحبّة في مجتمع الفرجة ولا تجعل الدموع تنهمر والجيوب تفرغ، ففي النهاية تظهر المشكلة الأولية للخير والشر، ويظهر بإلحاح مرّة أخرى، ضرورة النضال السياسي المشبّع بهذه الأخلاق، لضمان أن تحّل الإغاثة فعلًا مشكلات العالم، وليس هذا إلا مثالًا، ففيي أمريكا الجنوبية مثلًأ، يعاني السكّان من نفس هذا التجاهل، لأسباب سياسية تخصّ الولايات المتحدّة الأمريكية).
أمّا الفن، فلم يزل الفنّ في ثقافات العالم القديم -هذه ليست مسبّة بالطبع، ولو كنت تقرأ هذا المقال وتعتقد أن هذه مسبّة فأقترح عليك أن تعيد قراءته- لم يزل خادمًا للمتعالي، أي أنه يعبّر عنه، إنه يقدم رؤية "دينية" للعالم، حتّى في تلك الحضارات الوثنية، كاليونان، فقد كانت معبّرة عن نظام كوني، وبالتالي كان الفنّ يمتلك موضوعية، ويستقل بشكل عام عن منتجه، فالتمثال أشهر من النحّات، واللوحة أشهر من الرسّام، لأنه في الحقيقة تخرج من ذاتية صانعها إلى فضاء المعنى المتعالي ومن هنا تكتسب مسحة أسطورية، تجعلها فوق الواقع، أما الآن، فاسم فنّان أو موسيقي قد يعرفه الجميع، بينما لا يعرفون أشهر أعماله، أو حتّى لماذا هي مميزة؟، لذا اعتبر هيجل الفن من عباءة الدين الذي يمثّل "متجاوزًا ثقافيًا" ينظر للأعلى.
تذويت الفنّ، أي تقديسه لذاته، وتقديس تجربة الإنسان الذاتية، فصار العبقري هو الذي يخرج من داخله شيئًا فنيًا، إنه من داخله، من ذاته، ليس من المتعالي، المتجاوز، الميتافيزيقي.
لكن، هل يمكن أن توجد "عظمة" حداثية؟، أي عظمة في غياب المتعالي؟، أليس هذا تناقض ذاتي؟، فالعظمة بالضرورة لا بد لها من تمثّل متعالي خارجي عن الأفراد؟، نحن إذًا نعيش نهاية "العظيم"، وصعود "السطحية" و "الابتذال" (هل يشكّ واحد من القارئين في مثل هذا؟)
الكآبة الديمقراطية، عن مشاكل العالم الأول!
أعلم، أعلم عزيزي القارئ أن كلمة "كآبة" وكلمة "ديمقراطية" لا يجتمعان في مخيالك، يا ساكن الدول العربية يا حلو أنت، لكن صدّقني، هذا يحدث، وللمفارقة تلك الشعوب، التي تبدو في ظاهرها محظوظة أكثر بديمقراطيتها هي تلك التي تعاني من هذه الكآبة، وهذا ليس عرضًا من أعراض الترف و"الدلع" المعروفة، لكنه كامن في جذور النظام السياسي الحديث، إنه كامن في "العلمنة" التي تمّت للنظام السياسي، في تسييل الغايات، وتقننتها وتحويلها إلى أهداف (تلك الـ S.M.A.R.T التي نعرفها في علوم الإدارة)، المنظومة الإنسية والعلمانية قد تثبت جدارتها في "إدارة الدولة"، لكنها وأبدًا لم تثبت جدارتها في إلهام شعب هذه الدولة، وإليك المشكلة: لم يعد لدينا عدو!، كيف بالله يمثّل هذا مشكلة؟، الأمر وما فيه أن وجود عدو يسمح لنظمنا أن يكون لها غاية، أن نتجمع على شيء نعيش ونموت لأجله، من غير وجود العدو، ينكشف للإنسان الغربي "عدمية الممارسة السياسية"، فنحن لا نملك "المتعالي" الذي نتحدّ معه، ونكتسب منها "هويتنا الجماعية"، وإن كان ليس ثمّة شيء سوى الأفراد في النهاية، فإن معنى ذلك أن "الأمة" فقدت قداستها، أي الفضيلة الأساسية، التي كانت تضمنها القومية أو الثورة أو الحكم باسم "الله"، إذ أن هذه الأخيرة تخلّد أهدافًا كبرى، فأي فضيلة بقيت إذًا لسياسي علماني، لا يعدو في نهاية المطاف كونه واحدًا من الناس!، هنا، ولدت السياسة كـ"تقنية"، أي بحث محموم عن وسائل السلطة والسيطرة والإنجاز، دون أي سؤال عن "الغايات" (دخلت هذه التقننة إلى مجالات الحياة الحديثة قبل ذلك، فيما تحدّث عنه ماكس فيبر طويلًا في مفهومه عن "العقل الأداتي"، أي العقل التقني المهمل للغايات، وتحدّث عنها كذلك مارتن هايدجر، إلّا أن السياسة احتفظت بمقدس علماني، وتمّ إحلال الدولة محلّ الإله، كما يقول كارل شميت: "كل المفاهيم النظرية الحديثة للدولة، هي مفاهيم لاهوتية معلمنة"، إلّا أن انهيارًا حدث للسياسة بعد انهيار القوميات وصعود الليبرالية الديمقراطية، هو ما يتكلم عنه لوك فيري هنا)، ومن هنا نشأت عبادة الكفاءة والإنجاز، كفضيلتين لهذا العصر، أي أن يتحوّل السياسي إلى موظّف يقاس أدائه بتحقيقه لأهدافه الإدارية، وبتعميقه لوسائل السلطة، وانتهى، ومن هنا بالطبع نشأ المزج بين الاقتصادي والسياسي، فإن يكن السياسي سيقاس بمعيار الكفاءة، فليكن إذًا لا دور له إلا تحقيق المقاييس الاقتصادية، وعندها ينتهي دوره، وهو ما يعني بالتأكيد موتًا نهائيًا للسياسة بوصفها كذلك، أي بوصفها رؤية لأهداف كبرى وغائية و"أمة" ،و"دولة" و"شعبًا"، وبالتالي، صعود الفرد الخاص ليكون هو السياسة والسياسة هو (يفسّر هذا مثلًا الصعود المتسارع لسياسات الهوية، فهي تعبير صارخ عن صعود الفرد الخاص سياسيًا وغياب مفهوم الأمة والشعب وانهيار فكرة الديمقراطية الشعبية بوصفها حكم أغلبية لصالح الديمقراطية الليبرالية التي تقدّم الأقليات)وكما يقول لوك فيري: "إن السياسة التقنوية، بوجهها المزدوج - عبادة الكفاءة والإنجاز التي تتحدث عنها الصحافة بألفاظ "في ارتفاع/في انخفاض" الفارغة، والعبادة التقنوقراطية للضغوطات الخفيّة على الجهلة لم تقد إلى إخفاء المسألة الاجتماعية وحسب، ولا فقط تصفية الموضوعات الأكثر كلاسيكية لليسار، وإنما قادت إلى إفقاد القيمة والاعتبار حتّى لفكرة الأفكار في السياسة!"
وإذًا: ما قيمة ومعنى الحياة؟
يقول نيتشه: "إن أحكامًا على أو تقديرات للحياة، مع أو ضد، لا يمكنها في نهاية المطاف أن تكون صائبة أبدًا: فلا قيمة لها إلّا أن تكون أعراضًا، وفي ذاتها فإن هذه الأحكام مجرّد بلاهات، لأن قيمة الحياة لا يمكنها أن تقدر من طرف حيّ لأنه قد يكون خصمًا، ولا يمكن بداهة أن تقدّر من طرف ميّت"
هذه بالتحديد هي مشكلة الرؤية المادية العلمانية، فبإلغائها كل إحالة قبلية من حيث المبدأ، على أي تعال كيفما كان، فإنها تذيب الإنسان في مجمل سياقه، وبالتالي اضطرت لاختراع أسطورة الفرد الحرّ كإحالة لمتعالٍ مادي (الأسطورة الليبرالية التي يعيش عليها عالمنا اليوم في الاقتصاد والسياسة والأخلاق والرؤية الكونية)، فضلًا عن كونها تقع في تناقض أنها تزعم أنها الحقيقة الوحيدة، وتأكيداتها صحيحة، بينما في خطابها المقول تعلن النسبوية وتهاجم التعالي، فليت شعري ما استثنائك لنفسك من النسبية إن لم يكن تعاليًا مخترعًا وبلا برهان؟ يرى لوك فيري أن الدعاوي العلمانية تتشابه مع الدين في عدّة أوجه:
الأول: وضع القيم المتعالية، كما يقول: "انطلاقًا من الإنسية ذاتها، أي بالإتفاق التام مع رفض حجج السلطة وطرح تعاليات في كل مجالات الحياة والفكر والثقافة: فنحن لا نكف دون حتّى أن نعي ذلك عن وضع قيم متعالية على الوجود، قيم تستحق المخاطرة بالموت من أجلها، والحبّ بطبيعة الحال هو أقواها وأوضحها، ليس لأنها تتجسد في العلاقة بأشخاص آخرين وحسب، وإنما لأنها تحرّك أيضًا كل الأنظمة الأخرى، من الحق إلى الأخلاق مرورًا بالفن والثقافة والعلم"
الثاني: أنه مع ذلك، لا يؤسس لهذه القيم المتعالية ولا يبرهنها عقليًا، ففي المنظومة الدينية (وبالمناسبة في أي تقليد فلسفي كامل مهما كان)، لا بد من وجود شيء خارج هذا العالم، أي فوق الطبيعة البسيطة للمادة، يمنح التعالي معناه وحجيته العقلية، لكن الإنسانوية تقدّم المتعالي الخاص بها بوصفه نسبويًا ذاتيًا رغم كونه متعاليًا (Error 404)
الثالث: أن هذه التعاليات بشكل ما "كونية"، تربط بني البشر ببعضهم، فهي إنسانية تعم البشرية، رغم أنها وياللعجب غير وثوقية أصلًا، رغم ذلك، فهي تقليد مقدس، يربطنا كأناسي جميعًا، ويولد بها الإنسان، أي لا يكتسب هذه القيمة (أي كونه إنسانًا) بأن يفعل شيئًا، فهو يولد منتميًا لتعالٍ ما (المفروض أن الإنسان ابن الطبيعة، وكما نعلم فقانون الطبيعة ليس فيه أصلًا أي إنسانية، ولو كان الإنسان حيوانًا فقط فالإنسانوية أوضح الأفكار خطئًا كما هو ظاهر).
الرابع: هو أن نشأة الحياة العاطفية الحديثة، والتأسيس العاطفي للعلاقات الإنسانية، كان مرتبطًا، للمفارقة، بالخروج من دين يزعم أن رسالته هي الحب العام للجميع، وهو الذي يجعل نصوص الأناجيل راهنة حتّى في سياق ومضمون وطريقة تفكير علمانية، وبالتالي تجد الحب هو القيمة المركزية والمؤسسة للمعنى في سياق علماني، كما هو بالظبط في المسيحية، باستثناء أن الإنسان المؤله أخذ مكان الإله المؤنسن (إله المسيحية الذي تجسّد وضحّى بنفسه في سبيل أبنائه الأحباء!)
أخيرًا:
هل يمكن، في ظل ما عرضنا، أن يوجد "متعالٍ علماني"، أو أن يتمّ المشروع العلماني تمامًا ويتخلّص من المضامين والأخلاق الدينية التي تغذّيه كليًا ولا يستطيع الفكاك منها؟، أو تنجح مثلًا حركات العصر الجديد، التي تبني الكنائس لمؤمنين بأديان دنيوية علمانية تشجّع الخبرة الذاتية والتجربة الفردية في الإيمان والعبادة؟، لوك فيري متفائل بشأن هذا ويعتقد أن علينا فعله، وأقول ردًا عليه، بقول نيتشه: "لقد تخلّصوا من إله المسيح، وأصبحوا يعتقدون أنه ينبغي عليهم الآن وليس دون مبرر إذًا أن يظلوا متمسكين بالأخلاق المسيحية [...] إن المسيحية نظام ورؤية كلية ومتكاملة للعالم. إن نحن انتزعنا فكرة أساسية منها: الإيمان بالله، نكون قد حطّمنا الكلّ، لن يكون بين يدينا بعدها من شيء ضروري!، تفترض المسيحية أن الإنسان لا يعرف، ولا يمكنه أن يعرف ما هو خير بالنسبة له وما هو شر، إنما هو يؤمن بالله الذي له وحده العلم بذلك، الأخلاق المسيحية فرض منبعها متعالٍ، وهي فوق كل نقد، وفوق كل حق في النقد، ولا تحتوي إلّا على الحقيقة!، إذا كان الله هو الحقيقة، فهي تستقيم وتنهار مع الإيمان بالله، إذا كان الإنكليز يعتقدون فعلًا بأنهم يعرفون من لدن أنفسهم، وبموجب "حدس" ما هو خير وما هو شر، وإن كانوا يعتقدون تبعًا لذلك أنهم لم يعودوا بحاجة إلى المسيحية كضمان لقيام الأخلاق، فإن هذا في حدّ ذاته يمثل نتيجة لسيادة الحكم القيمي المسيحي، بما يجعل منبع الأخلاق الإنكليزية يتوارى بين طيّات النسيان، وبما يجعل الناس لا يشعرون البتّة بضرورة ارتباطها الوثيق بمبررات لحقّها في الوجود"
ولا كلام، بعد كلام عمّ الناس، طبيب الفلاسفة الحقيقي: النيتش!.