مرة أخرى.. وكما هي عادتها دوما في الدفاع عن المصالح العليا للأمة، تنبري المرجعية الدينية العليا وتعلن موقفها الصريح من الاحتجاجات الراهنة المطالبة بالإصلاح، فالمتابع لخطبها خلال الأسابيع الماضية، يتيقن أن المرجع الأعلى لو تهيأت له الظروف، لرأيناه في ساحة التحرير حاضرا مع المتظاهرين.
ليس غريبا على المرجعية الدينية ذلك.. وهي طالما تصدت للمخاطر الكبيرة التي تهدد كيان الدولة ووجودها، فهي لم تقبل بدستور مستورد تفرضه قوات الإحتلال وإنما دعت الى كتابة الدستور العراقي بأيد عراقيه والإستفتاء عليه من قبل الشعب العراقي بأجمعه، دون التفريق بين طائفة وأخرى، أو مكون دون آخر.
وعملت كإطفائي! حين أشتعلت النار في النجف عام 2003، بعد إشتداد المواجهات بين جيش الإحتلال وجيش المهدي، ووصولها الى مرقد الإمام علي " عليه السلام " فدعت الجماهير الى مرافقتها من البصرة وصولا الى النجف، فإنطفأت النار التي عجز الجميع عن معالجتها،وحين إندلعت الحرب الطائفية عام 2006 كانت كلماتها وتوجيهها ماء أخمد النار المستعرة، ووقف العالم متحيرا أمام تلك الحكمة، التي أنهت أزمة كادت أن تحرق بلدا بأكمله.
أما عام 2014 فكانت القضية تختلف، حين هجمت مجاميع أرهابية مدعومة داخليا وخارجيا، تريد إجتياح هذه البلاد ونهب خيراتها، ورسم معالم جديدة على أسس طائفية وعرقية، والعودة بالبلاد الى عصور الجاهلية، فكانت تلك الكلمات التي أعلنت " الجهاد الكفائي " وأيقظت شعبا من سباته، وأزاحت غيوم الشر، وأحيت أمة كادت أن تموت.
بعد إنتهاء سنوات الحرب العجاف، مخلفة آلاف الشهداء ومدنا خرائب بسبب الحرب أوالإهمال وجيوشا من الشباب العاطلين، نتيجة توقف حركة الإعمار والبناء، والفساد الذي ضرب مفاصل الدولة، كان المتوقع من حكومة 2018 أن تكون بشكل مغاير عما قبلها، وتتوجه لبناء دولة تراعى فيها مصالح الجميع، بدلا من مصالح الاحزاب المشكلة لها، ولكن الذي حصل أن الفرسان نزلوا من سفح الجبل للحصول على المغانم، فيما كان البعض بإنتظارهم لتقاسمها معهم.
يبدو أن الاحزاب الحاكمة " الممسكة بالسلطة " لم يعد يعنيها آهات الجماهير ولوعتهم، وصارت تتهرب من جميع الدعوات الرامية الى إصلاح الأوضاع والنهوض بالواقع الإقتصادي والإجتماعي، مما دعا الجماهير الى الخروج في مظاهرات حاشدة في جميع المحافظات العراقية لاسيما العاصمة بغداد، أقضت مضاجع الحكام وجعلت كراسيهم تهتز من وقع هتافات الجماهير المطالبة برحيلهم.
لكن الأحزاب الحاكمة كانت تراهن على إضعاف هذه التظاهرات وتسويف مطالبها، مستخدمة عامل الوقت مرة، أو إصدار قرارات بائسة لا تلبي طموح الجماهير التي ملت من الوعود الكاذبة، ولم تعد تثق بأي سياسي وأن علا صوته، فهي لم تر من الوعود الإصلاحية شيئا، فلا أصلاح لمنظومة القضاء ولا محاكمة للفاسدين، ولا قانون إنتخابات جديد، ولا مفوضية مستقلة.
لذلك جاءت خطب المرجعية الأخيرة لتمثل زخما كبيرا للمتظاهرين، تزيد حماسهم وأعدادهم، وترسم خارطة طريق لطلباتهم الواجب على الحكومة تنفيذها ضمن مدد محددة، داعية القوات الأمنية الى عدم إستهداف المتظاهرين، مؤكدة على سلمية المظاهرات، ومحذرة من التدخلات الخارجية التي هدفها تحويل العراق الى ساحة للصراع وأبنائه أدواته.
أثبتت التجربة بضرس قاطع أن الإلتزام بتوجيهات المرجعية الدينية هو طوق النجاة، الذي يخلص الأمة من المخاطر التي تداهمها، فهل ستلتزم الأطراف كلها بما تريده أم إعمل نفسك ميت؟.