د. علي بانافع
الديستوبيا باللغة اليونانية تعني المكان الخبيث وهي عكس المكان الفاضل اليوتوبيا، وقد تعني الديستوبيا مجتمع غير فاضل يسوده الشر ليس للخير فيه مكان، ومن أبرز ملامحه الفوضى الجهل والخراب والفساد، باختصار هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته يتحوّل فيه المجتمع إلى مجموعة من المسوخ تناحر بعضها بعضاً، والمجتمعات الديستوبية تتميز غالباً بالكوارث والتجرد من الإنسانية، وغيرها من الخصائص المرتبطة بانحطاط كارثي، فالديستوبيا هو عالم الواقع المرير هو مجتمع خيالي، فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه، وقد ظهرت قصص وأفلام خيالية للديستوبيا، ولكن في واقع البشر اليوم ما يغني عن هذه القصص والأفلام الخيالية، فما يحصل في العالم من أنواع الرعب والدمار والخراب للإنسان والحضارة لا يستطيع أي سيناريست أن يكتبه أو يتخيله؛ فإذا انضاف إلى المشهد ما يحصل في بعض المدارس، فقد تمت الديستوبيا كما تخيلها كاتبوها أو أرعب!!
كتبت في مقال سابق عن ميكيافيلي الإيطالي، صاحب مقولة: ( الغاية تُبرر الوسيلة ) والذي عاش بعد ابن خلدون بقرنٍ واحد تقريباً، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل اطلع ميكيافيلي على مقدمة ابن خلدون واقتبس منها آرائه؟! أم أنه توصل إليها نتيجة دراساته الخاصة وخبرته الشخصية؟!
مهما يكن الحال، أكاد اجزم أن هناك فرقاً كبيراً بين الرجلين، ولكي ندرك هذا الفرق يجب علينا أن نعرف أن ميكيافيلي أراد -في الغالب- أن يقدم نصائح عملية للأمير بغية الانتفاع بها في سياسة رعاياه، إنه لم يقصد أن يُؤسس علماً له أُصوله وقواعده كما فعل سلفه العربي ابن خلدون، ويَصِحُ أن نقول أن ابن خلدون كان مفكراً وعالماً وفيلسوفاً في آن واحد، أما ميكيافيلي فأقصى ما يمكن أن يُوصف به أنه كان ممارساً أو خبيراً اجتماعياً.
وقد شاعت دراسات لا قيمة لها تدعو إلى تسفيه حجم جهود ابن خلدون؛ وإسهامه في صياغة فلسفة جديدة للتاريخ بوجه عام والإسلامي بوجه خاص، إلى جانب جهوده في وضع أُسس علم الاجتماع، وهذه الدراسات الخاضعة للمناهج الغربية -إما تحت ضغوط أو تقليد أعمى- وهي في الحقيقة لا تعدو كونها إسقطات مادية وعلمانية وقومية لا دينية، لأن أصحابها لا يتصورون أن الإبداع يمكن أن يقع من داخل الخندق العربي والثوابت الإسلامية، فقد ظُلم ابن خلدون ظُلماً شديداً جراء ذلك؛ وظُلم مرة ثانية جراء إطلاق اسمه على أمكنة وهيئات ومنظمات وجامعات ومدارس!!
وقد قيل: لولا أهل الرياء لما عُمرت الأرض بالمساجد!! وأقول: لولا أهل الرياء والسمعة ومن يسرِّق الجهود لما انتشرت شهادات الزور والتقزيم هذه هي الحقيقة!! لذا قصة الشهادات والتكريمات تحتاج لدراسة وفق المصالح والمفاسد الشرعية، وليس وفق قانون المصالح الشخصية، لقد اشتغل التافهين بأذية الآخرين بسبب خلافات مشروعة فبين الفينة والأخرى يستغل هؤلاء التافهين صلاحياتهم الإدارية -ولا رقيب ولا حسيب- حقارةُ وخساسةٌ ودناءةٌ نختلف نعم، لكن أن يُكثِرَ التافه استغلال صلاحياته الإدارية للإضرار بالآخرين، فذاك قمة الحقارةٌ والخساسةٌ والدناءة، وممّا زاد الطين بِلِّة والمرض عِلِّة، أنّ بعض المتسلقون حوله يردد أفكار هذا التافه جهلاً أو طلباً للشهرة والدهشة، كالذي بالَ في بئر زمزم وقال: أحببتُ أن يذكرني الناس ولو باللعنات!!
ضلالٌ بعد هُدى، تطاولَ الأصاغر على الأكابر، تسفيهٌ للعلم وأهله، وتقديمٌ للسفهاء، توثّبَ مَن لا علم له ولا أدب له على الإدارة، في سوء سيرة، وخُبث سريرة، وهؤلاء المتسلقون حوله ينفثون في رَوعِه، يُلمِّعونه ويُقَدِّمونه على أنه القائد الفذْ وحبْر الأمة وإمام الأئمّة، فجاءنا هذا الرويبضة بالطامّة، وتسلط هذا التافه في أمر العامّة، ونسي هذا التافه الأحمق أن الكثير من المعارف والمهارات لا تُكتسب بالقراءة والمطالعة، ولا بالشطارة، ولا المال أو الجاه والمنصب، وإنما قوارع الزمان وتقادم السنين وخوض التجارب، فانتفع ممن سبق واستفد من أخطاءك، وأرح الأمة منك ومن الزاماتك، وها قد جاءتك النصيحة بدون مقابل.
صدق الله العظيم في كتابه الكريم: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ(12) } [البقرة]. وصدق التابعي الجليل الحسن البصري رضي الله عنه ورحمه، بقوله: ( والله لو طقطقت بهم الإبل، وهملجت بهم البراذين، لا يفارق ذل المعصية قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذِلْ من عصاه ).
جنبنا الله وإياكم التافهين الزائغين الزائفين العاصين، وجعلنا من الأمة الوسط، لا غلوّ ولا شطط، لقد شغلَنا من لا عقل له، ولا علم لديه، وإنما له بالتفاهة تارة وبالحقارة تارة أخرى باع طويل …