4
مضت الأيام، لا أدري كيف مضت! غير أننا كنا ننسج نفس الحياة بخيوط متشابهة لأحداث مختلفة, لمحت سيدتي أنني أتجاهل حسن في معاملتي له :ـ ريماس ما رأيك بحسن. قلت في محاولة لإخفاء ما يتحرك بداخلي, مثله مثل طاقم العاملين بالبيت سيدتي نهرتني بعصاها بلطف :ـ أيتها الحمقاء، حسن ليس مثل الطباخين ولا المعاونين في البيت, حسن شاب متعلم، يحمل شهادة مثلك تماما، ومن أصل طيب. شعرت سيدتي أني ذهبت بعيدا، وأنا أجلس تحت قدميها, حركت بيدها أمام عيني, ضحكت, نظرت لها اندفعت نحو جبينها أقبلها. أمسكت يدي وربتت عليها:ـ ريماس, إنني سعيدة بدخولك تلك المتاهة, وبقضاء بعض الوقت في عزلة, آه صغيرتي تلك العزلة التي جمعت بيني وبين سيدك يوسف. كلانا كان يقضي وقته منفردا, لكن الأسباب كانت تختلف بيننا,أنا كنت أفكر فيه، وهو يفكر بالشعر, حتى تذوقت طعم العزلة الملتحمة بروح الآخر, ذاك الجحيم الذي تشعله فيك الأحداث.لقد كان دائما ما يردد لي حين أثور على عزلته,
ـ سيدتي, أنا شاعر, والشاعر ليس هذا الكائن الذي تصوره الأساطير, بل هو كد وتعب وذوبان في غيمة العزلة حتى تأتي الكتابة صاغرة كالأنثى بلا خجل.
لعلني يا صغيرتي لم أشعر بهذا الإحساس إلا بعد أن تعمقت به وأحببته حد الهذيان, فكنت أصهل أمامه من الشوق, وكان يشبهني بقوله إنّك تصهلين كما اللغة التي تأتي عن مشقة.
ريماس لا تكوني كالمهرة المتمردة, ولا تصهلي بعيدا عن ضاحيتك, لربما التفت حولك الذئاب.
تملكتني رغبة لرؤية هذا العالم الخارجي، الحاضر المنفي تحت جمرة ذكرياتها, المرهون لديها بعودة يوسف الحبيب, أرى البحر, طيور,
النورس والأسماك , أصوات العصافير, هذه المياه التي تجرفني, الرغبة في الحياة, والأمل بمستقبل كالشّفق, أشعر أن يد الطبيعة تغسل وجهي، توقظني من نفسي, ترويني بعمق, صدري ينتفخ بالمشاعر الحية.
فلم أتردد، قلت بصوت يكسوه الخجل ـ ماذا أفعل سيدتي.
أمطرت سيدتي فجأة، وبلا زوابع مسبقة, فراحت كلماتها تبللني، شعرت بالخجل تغير لون وجهي, أصبح شديد الحمرة بعد ثوان من تلك الكلمات, ظللت لدقائق في متاهة عدم الفهم, تداركت ما فعلت بي سيدتي الفرحة, أعادت على مسامعي نفس الكلمات
ـ لو توافقين عليه زوجا سأجعلك تسافرين سويسرا لقضاء أسبوع هناك هدية زواجكما.
لا أدري ما جعلني أقبل رأسها، أضمها لصدري بقوة لم أشعرها, وهي تمسك يدي، تشد عليها بقوة أيضا, كانت الفرحة أكبر من تفكيري, إنه أول خيط للحياة, الحب والجاه, سأعيش كسيدتي فترة زمنية قد تمتد بداخلي لتشمل مساحة عمري كلها.
سأحكي ذكرياتي مثلها لأبنائي, سأكون من أصحاب الذكريات الجميلة, ولو لأسبوع, يكفي أن أعيشه, لم يكن حلما يوما، ولا هاتفاَ يأتي من بعيد, إنها سيدتي ذات القلب الحنون.
ثم تنبهت أني أغرقت نفسي في بحر لجي, فقلت :ـ سيدتي لمَ سويسرا بالذات. تحرك البحر بداخلها، تنهدت كسفينة ترسو بعد طول إبحار.
ـ إنه أول مكان قابلت فيه يوسف؛ قبل أن تموت الجدة هيليا أوصت أن تدفن باليونان عند الشجرة العتيقة بجوار جدي, حدث أن ماتت بعد هروب اللعين ناجي بشهور, استعنت ببعض الأصدقاء أتذكر أن ماهراَ كان صديقا لطيفا, أنهى كل الإجراءات دون أن أشعر بمشقة, حملت الطائرة الجثمان وأنا معها, هبطنا في مطار كوزاني باليونان, مضيت بالسيارة نحو أمفيسا، تلك المقاطعة التي لم تخرج مني رائحة أشجار زيتونها أبدا, لقد أعادتني إلي جذوري رائحة الكنسية، حين حضر الكاهن إلى البيت ليباركها ويضع عليها نفحاته الأخيرة, تمت مراسم الدفن في وقار يليق بسيدة عجوز، كانوا يعتبرونها إحدى فلاسفة المقاطعة. عدت أجلس على الكرسي التي كانت تجلس عليه هليا, ألعن الأيام التي أخرجتني ومنحتني تلك القشرة النتنة التي لا تزال عالقة بصدري, حتى جاءت رسالة ماهر, فتحتها، وأنا أشتم فيها رائحة الوفاء منه, قمت على مهل نحو الرواق سلطت الضوء على الرسالة
عزيزتي صوفيا
لن أزيد لقد اشتقت إليك صوفيا هانم, مغادر الآن إلى سويسرا لدي مؤتمر هناك, أتمنى أن يجمعنا القدر.
طويت الرسالة رحت أضمها لصدري, ربما كان هذا الرجل الوحيد الذي جاورني بلطف, قدم لي الكثير دون أن يشعرني بالضجر. فكرت كثيرا, الجذور بداخلي تختلط, إن فكرة المواطنة، الأصالة لن تمنعني من التحرك, بداخلي نفحات البحر الثائرة. لم تمض ليلتان حتى كنت بالمطار, أستقل الطائرة إلي سويسرا. هناك كان ماهر في انتظاري في مطار جنيف, ركبنا السيارة حيث المطار يبعد أربعة أميال عن جنيف نفسها, بهرني جمال الطبيعةركبنا القطار لمدة ساعتين إلى قرية كران مونتانا, كانت أجمل المناطق التي رأتها عيني، تقع في قلب جبال الألب، ترتفع عن سطح الأرض, لم أشعر معه بالوقت بسبب الطبيعة الخلابة هناك. كان يتركني أمارس رياضة التزلج، ويذهب للمؤتمرفي مدينة سيير, ثم يعود لنقضي معا الوقت في سعادة كشفت عن نفسها بلا وضوح, لكن شيئا ما بداخلي لا يتقدم نحوه أكثر. ربما المرح والطبيعة الشيء الوحيد الذي بيننا. في يوم أخذني النوم لعالمه ولم يبرح عيني لوقت متأخر, عند نزولي إلى صالة الفندق كعادتنا لنتناول سويا الفطور, لم أجده, تلفت يمينا، شمالا لعله استبدل الطاولة, لاحظ النادل أنني أبحث عن شيئا ما. اقترب مني, انحنى, سألته عن السيد ماهر المقيم بالغرفة رقم 365 انصرف, عاد برسالة على صينية مزخرفة وضعها أمامي قائلا :ـ إنها من السيد ماهر.
تناولت الرسالة وقمت بفتحها. لم يكن فيها غير مبرر للانصراف دون وداع حيث اضطر لصحبة الوفد، قال أيضا إنه آثر ألا يكون بيننا وداع لربما تجمعنا أقدارنا يوما كما فعلت.
طويت الرسالة ولساني يردد:- أيها الملاعين، متى أفهم تلك الأرواح الشريرة التي تشكلت معكم في حفنة الطين لجنس الرجال, لا الزوج ينتظر، ولا الصديق, ربما هكذا هم الرجال يودعون بلا طقوس, ربما الهرب هو سبيلهم للتعبير عما تعجز عنه نفوسهم لحظة التفكير, أو لعلّهم أكثر حزنا من المكوث في أيّ مكان محدّد طويلا . الحيرة تأخذ زاوية بقلبي؛ تستند على مرفأ الوهم. الذي أصبح مثل شبح يخيفني الآن بعد أن تعودت الوحدة والعزلة. هناك لمحته يحادث صديقه, لم يكن يمتلك مواصفات الجمال, لكن مظهره كان يدل على أنه راق, حيث كانت ملابسه تميل إلى النظافة أكثر منها إلى الموضة.
على نفس الطاولة بالفندق جلست لتناول عشائي, بينما كنت أرتشف كأس العصير، وقعت عيني عليه أمامي، إنه يشرب النبيذ, انصرفت بوجهي عنه, كأني أهرب منه قبل أن يهرب مني القدر. في هذه الأثناء وصلتني رسالة من ماهر على الفندق, فتحتها، قلبي يرفض الرضوخ لهاجس يساورني.
إنه يدعوني لنزهة بالقاهرة, حيث يقام معرض الكتاب هناك, أغلقت الرسالة تنهدت بصوت لا يغادرني قلت : ما الدافع!! سئمت الفراعنة وأمزجتهم المتقلبة.
نهضت إلى غرفتي بعد وقت أمضيته في عزلة عن الكائنات المحيطة. عزمت في الصباح على الرحيل, جهزت أمتعتي, رددت حديث هيليا إن الجذور لا تنقطع حتى لو انفصلنا تظل ثابتة تجرنا إليها رغما عنا.
فاحت رائحة الخضرة والثلوج، تناثرت فوق زجاج النافذة, ديك النهار يوقظ النّوامَ فينا. ارتديت ملابسي اتجهت نحو صالة الطعام قبل الذهاب لمصيري. ما لبثت جالسة حتى سمعت أصواتا تعلو, تلفت جذبني الصوت إليه, وجدته واقفا شامخا يرد على أحد الموجودين بالطاولة التي خلفه
ـ لن أتمّ النّقاش مع من هو دوني...
بينما الرجل الآخر يكيل السباب, ويا للعجب لقد كان مظهرهما يدل على أنهما من العرب.
أتدرين ريماس سأقول لك شيئا يضحكك الآن, هؤلاء العرب لا يستطيعون إخفاء معالمهم، مهما بلغوا من الثراء, إنهم كمثل الياباني الذي يقول بأنه من كينيا مثلا. ضحكت بصوت مرتفع, فضربتني.
ـ لا تضحكي هكذا أيتها اللعينة, هل فهمتِ ما قصدت, هناك أناس معالمهم محفورة تبدو جلية, مهما تغير المكان, فاليابانيون كالعرب مواصفاتهم تدل عليهم حتى دون أن يتكلموا.
نظرت مستاءة إلى ما يحدث, فزاد الآخر سوءا, نهضت متجهة نحوه في هدوء وقلت له
ـ رجاء من أجلي لا ترد عليه, دعه.
فما كان من يوسف إلا أن ترك الصالة وانصرف بعد أن قال لي
ـ أعدك بذلك سأفعل من أجلك, سأذهب هناك إلى الملعب.
اتجهت ناحية الملعب؛ شعرت لأول مرة أن هناك بعدا آخر أو عمقا
لم أره في هذه الحياة.
لا ادري ما الذي دفعني لسؤاله في أول حديث دار بيننا
ـ ما ديانتك؟!
رد قائلا،:ـ لو كان غيرك سألني لأمطرته بوابل من السباب, أنا مسلم.
الحق أقول لم يكن جوابه شافيا لي, ساءت الأمور في نظري,
سرنا مسافات خضراء كبيرة في صمت, كنت أسأله عن بعض الأشياء يجيب بعمق, تعجبت من رؤيته للأشياء, كيف يدخل باللغة لمعان غير مهترئة, أمضينا معا النهار, دفعني لتأجيل سفري, في الليل قضينا السهرة في صالة الفندق على أنغام الطبيعة الرائقة.
في صباح اليوم التالي، كان ينتظرني بنفس الطاولة التي أجلس عليها, حمل على عاتقه مسئوليتي, راح يتنقل بي من مقاطعة إلى أخرى, حتى ظننت أني في فلك يدور بلا ساق.
توطدت العلاقة بيننا, علمت أنه شاعر, فصرخت به: علمني.....ضحك..:- لابد أن تكون الأمور محددة من البداية, لي طبيعة خاصة, لا أحب أن يعبث أحد بأشيائي الخاصة.
نشرت بتاريخ:
09/11/2019