نهضت مثلما تنهض الروح البائسة, تحفزت بفعل غريزة اخترقت نومي, كانت الشمس مثل سائل ناعم ينساب في البيت. دخلت المطبخ لأعد لها فطور الصباح, يراودني قلق من تأخرها بالنداء, لم أستطع منع نفسي من التفكير أسرعت نحو غرفتها,

ـ طاب صباحك سيدتي,هل بيدك ديوان سيدي يوسف أم مازلت نائمة.

ـ ريماس الرائعة, أحبك اليوم كثيرا, لقد وجدت بين دفتي ديوانه قصيدة لي, ياه؛ إنه يعيدني لسنوات مضت, أشعر بأنه قد اقترب, أسمع أنفاسه وصوته يناديني.

حدثت نفسي بصمت:ـ يا فتاح يا عليم، بدأ صباحنا بالماضي، متى أشعر بنبض اليوم، لا غده ولا أمسه, إلى متى سأظل حبيسة ذكرياتها.

قلت لها كي تهدأ : سيدتي أنتِ رائعة، وسيدي يوسف مثلك أيضا, لابد أنكما ملائكة, مثلكما لن يلعقهما الدهر.

ـ إن سيدك يوسف عظيم أمام نفسه, دائما يرى الأشياء وكأنه يراها مملوءة بأسرار عميقة.

إن الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة, قد كان جديرا أن يرضع من ثدي الكبرياء والعظمة.

ـ أف.. أف...

ـ ريماس هل تضجرين؟!

ـ لا سيدتي, أشعر بضيق في التنفس, أين ستتناولين فطورك اليوم؟

ـ هنا صغيرتي, لن أبرح غرفتي, رائحة يوسف تملؤها لن أبرحها.

عدت للمطبخ أعد لها ما لذ من شهوة البطن لتكتمل سعادتها, إن ذاكرتها كانت مثل موج البحر تقلب أعماقها وتخرج عجائب.

رنين الجرس وأنا بالمطبخ جعلني أترك ما بيدي وأجري مسرعة, تخطيت بلا فزع الفرسان، السفن، والسكارى؛ والأصدقاء، ومواطن الجمال في الحفلات.

دلفت الباب مسرعة على سيدتي, ما أن رأيتها بخير وجهها يبتسم حتى التقطت أنفاسي, كأنها قرأت ما دار بخلدي, تبسمت، مسحت على شعري

ـ الحب يا ريماس هو ما تقدّمينه لعجوزك دون أن تدري.

ـ لقد فزعت سيدتي خشيت أن بكِ معاذ الله سوءاَ.

ـ ريماس صغيرتي, هل زارك الحب؟

ـ سيدتي أنا مازلت في دائرتك مغمضة العينين كي لا أصاب بالدوار, ربما مخاض الحلم متعسر سيدتي, هل تسمحين لي بالانصراف.

اليوم أذهب للسوق لشراء بعض احتياجات المنزل.

ـ اذهبي صغيرتي، اصطحبي حسن معك يحمل السلال.

كنت أبذل قصارى جهدي حتى صرت مدبرة المنزل وصاحبة القرار في شراء الأشياء.

صحبته معي للشراء يحمل السلال, تنفست بعمق, بصقت ثلاثا أطرد ما تلبسني في الأيام الخاوية, ها أنا الآن أسير بالشارع، بعالمي الخاص الطازج المفعم بالحيوية والنضارة، بعيدا عن الماضي, أسير اليوم وأعيش اليوم, أتنفس اللحظة الآنية بهوائها ونبضها.

دون أن أصطدم بأفكارها التي أكلت أوراقها الديدان, عند مرفأ الخيال.

التصق بي حسن في الشارع, نظرت إليه بحدة, اعتذر، ابتعد قليلا, مزهوة بنفسي بصدري غير الممسوس ولجين ضحكتي الهادئة, عندما ولجت زقاق البازار نظرت للأسماك المعروضة على الطاولات أمامي أتفرسها جيدا, وقفت أشتري سمكا, أقلبه و آخذ ما أريد برقة في التعامل, فلا أمنحه الثمن المطلوب إلا إذا أخذت ما أريد دون حديث ممل. ثم عرجت على محل للخضار، اشتريت طماطم وبطاطس، وكوسة، ضعتها في السلة مع حسن لحملها, دخلت محلا للعطارة أتفحص البهارات، اشتريت بهارات مختلفة وشطة، عندما عطست, ضحكت، خرجت مسرعة أقول لحسن: حارة جدا تلك الروائح مثل الحياة.

فبادرني: بل مثل الحب

تظاهرت بعدم السماع, تلفت يمينا, اللحم ملفوف بالشراشف البيضاء راقت لي نظافة المحل,

ناديت على حسن : ـ تعال سأشتري كيلوات من اللحم.

إنه يعلم جيدا مكانتي عند سيدتي, لم يناقشني, بل كان يقول

ـ رائعة تعلمت من سيدتها الحكمة، والرقة في التعامل.

حمل حسن السلال وقد امتلأت, نظر إليّ قائلا

ـ يكفي هذا اليوم، لندع شيئا للغد.

وجدتها فرصة أن أعود لمثل هذا في الغد, اكتفيت ووافقته في الرأي.

إن لحظة ميلادي لم تكن يوم جئت من رحم أمي التي لفظتني وتخلت عني بموتها, بل كانت عندما أنهيت تعليمي الجامعي؛ وأنا في كنف تلك المرأة التي تعلمت منها الحياة, أتصرف بالمال الممنوح لي بكل أمانة، واضعة أمام عيني أن تسألني سيدتي فيما أنفقته.

عدنا للبيت, سيدتي منفرجة الأسارير, قبلتها في جبينها, ذهب حسن للمطبخ ينتظرني.

بادرتني قائلة:ـ اتركي كل شيء الآن سنخرج ثلاثتنا, لن أتركك صغيرتي ومنديل ذكرياتي يغمض عينيك.

ـ واو يالك من امرأة رائعة حقا.

لقد بات الضجر من قصصك يصل لأنفي, لولا محبتي لك, هكذا حدثت نفسي سرا, ضممتها بقوة، أطلقت القبل على رأسها, حتى غمرها الضحك وهي تبعدني بيدها قائلة

ـ أيتها اللعينة أكاد أفطس منك لن تستطيعي الخروج إن مت الآن.

لا أدري ما الذي دفعني بفرحة للمطبخ أشد حسن من ذراعه

ـ حسن استبدل ملابسك سنخرج مع الهانم الآن.

كان يقف مذهولا, يفرك عينيه، ينظر ليدي الممسكة بذراعه, ذكرتني عيناه بزجري له حين لامسني بالسوق ونحن نسير.

لأول مرة يتسرب إحساس غريب إلى روحي, هربت من نفسي, صرخت به

ـ لن ننتظرك طويلا, احضر السيارة لسيدتك.

بسرعة استبدلت ملابسي, اتجهت لغرفتها, كانت كالبدر راق لي جمالها ورقتها , كأنني أراها لأول مرة

أمسكت بذراعي, تحمل بيدها الأخرى حقيبتها, تركنا البيت وذكريات الأمس تعبق به, حسن ينتظر بلهفة، ظهرت في سرعته بالوقوف أمام السلم, خطوات وكنا بداخل السيارة التي انطلقت في الاتجاه إلى شارع طرح البحر, في مجمع المطاعم حيث تجد راحتها عندما تصعد إلى الدور الأخير تجلس قبالة البحر, كل شيء يبدو صغيرا أمام عينيها تعشق سبر أغوار هذا العالم, تفرست الوجوه المحيطة كأنها تبحث عن أحد ينتظرها منذ زمن هناك, كتمت أنفاسي، صرخت بداخلي

0

نشرت بتاريخ:

09/11/2019