في الحلق بحر ميّت

رواية

سمية الألفي

الإهداء

هنا ....لا أدري كيف رسمته في غفلة من عقلي, ولا أجرؤ على كونه ... يراودني. ربما هذا الذي يحمل عرفانا في صدره ميتا مسبقا, فلا يُحملني سوى الوفاء له بعهد بيننا

2

خلعت الشمس حجابها, الغيمة الرخوة تتساقط على زجاج سيدتي, حتى نادت كعادتها لأحضر لها ديوان الشعر، الذي كانت تضعه بجوارها على الكمود ينو, لتستقبل النسمات الأولي بكلمات زوجها الشاعر الذي يرافق وجدانها. كان يحلو لي أن أراقبها حين تنشد أبيات الشعر، كأنها تراتيل باتت مباركة، تمنح البيت صباحا ذهبيا, بعد أن تنتهي من القراءة، تسبح للحظات في عذرية صافية كأنها ترى الصباح لأول مرة. كانت تنهض، تفارق السرير تجلس كعادتها على الكرسي الهزاز في الشرفة، تستقبل نداء البحر لها مع صفارة أول سفينة تعبر، تعيد لها نضارة وجهها. أكون قد جهزت لها نصف فطيرة دون دسم، وكوبا من الشاي الأخضر، وتفاحة كانت تضعها فترة على شفتيها وتبتسم خلسة, ثم تضعها أمامي مشيرة لي أن أقوم بتقطيعها, وهي تردد

ـ إن اللذة لا تأتي من طعم التفاحة, بل من الفم الذي يتذوقها.

بعد أن تتناول سيدتي الفطور, تضع نظارتها على وجهها, أتركها مع ديوان الشعر الذي لا يفارقها, ابتعد دون أن أنبس ببنت شفة..كنت أشعر وأنا أنظف حجرتها أنها تجمع رائحة كل الأشياء, الصبا، والمرض، الفرح؛ والموت, أشتم رائحة الشيخوخة في وسادتها, أشعر بالدفء من أنفاسها النضرة بالغرفة. كانت كثيرا ما تستبدّ بي رغبة جامحة في أن أناديها جدّتي، لكنّي لم أكن أجرؤ. كنت أعزو الأمر إلى أنّ الكلمة كلمتها، ولا يجوز لي أن أشاركها إيّاها وإلاّ تساوينا، وربّما غضبت.. الهدايا التي تضعها أمامها على دولاب الفخار, مبهرة راقية, لا أستطيع لمسها ولو خلسة, فهي ملكة محظور لمس مقتنياتها. عندما توشك الشمس على تقسيم النهار, أعود بعد أن أكون جهزت وجبة الغداء، وقد انتهت من النشوة التي تعيشها مع زوجها على الورق, ترفع نظارتها قليلا، تنظر وهي تقطب حاجبيها

ـ ريماس .... أين كنتِ وماذا فعلتي بحجرتي؟!

لم ارتعد من السؤال, فقد كانت تردده يوميّا, ما كان مني إلا أن أرد كببغاء

ـ لا شيء مليكتي صوفيا لا شيء, إنهم بخير سيدتي, خيل لي أن سيدي يوسف أبلغني أن أقبل جبينك, تنفرج أساريرها حين يذكر اسم يوسف أمامها, تقول:ـ طاب صباحك أيها الشاعر الصعلوك, لقد كنت أوفى وأنبل, آه آخيليس أشتاقك.....

أيتها اللعينة تعرفين كيف تسعدينني, أحضري لي الشال الأحمر أول هدية منه.                    أعبر الرواق، كأنني أمر بين رجال يرتدون بزات عسكرية من الحديد, سيوفهم مشهرة في وجه أي تحد يقابل سيدتي صوفيا, لا تبرحني الرجفة حتى أضع الشال على كتفها. عندما كانت تنتهي من لحظات السعادة، تعود من رحلة الغرق الوهمية على الورق، مع معشوقها آخيلس كما كانت تناديه, أضع أمامها طعام الغداء أقف خلفها. عندما كانت رائحة البحر تفوح، أعلم أنها ستبحر عند مرفأ الذكريات, تدير برأسها لتراني, أتحرك قبالتها, كنت أرى الذكريات تنتفخ فيها, سألتني ذات مرة بدلال شابة لم تتجاوز التاسعة عشر من عمرهاـ :_ريماس... هل تشتمّين رائحة اللوز؟                :ـ لوز أي لوز سيدتي! همهمت: بدأنا الثرثرة, لم تنتظر حتى أنهي واجباتي المنزلية ونجلس في المساء, هبت رياح البحر تفور بداخلها, تقلبت أعماقها, لم تنتظر مني إجابة, كانت ترغب في اعتصار الذكريات التي انتفخ بها قلبها حتى تضخم, استرسلت تروي.

ـ أيتها اللعينة، شجرات اللوز تفوح رائحتها, أشتمها بقوة, بجوار الدير, يقف يراوغني بين التلال, منعزلا؛ إلا من عصاه التي يتكأ عليها, لا يتركني حتى أدخل صحن الكنيسة، ألهث، أتنفس بصعوبة, أجلس لحظات، أستريح، وقد امتلأت سعادة ونشاط، أنظر إلى المكان في هدوء وصمت, إنه مكان رائع للتأمل, الراهب الوسيم ذو العينين الزرقاوين، يبارك الأطفال يمنحهم الحلويات, الفتيات تفصح له عن خطيئتهن ليستغفر لهن الرب, أقف عاجزة عن النطق, الذهاب إلى الدير لا يمثل لي الدين, كنت أذهب من أجل رؤية ذاك اللعين ناجي.

عند مغادرتي عتبة الكنيسة, كانت الدهشة لا تزال تتملكني, من أين يأتين بتلك الجرأة ليفصحن عن خطيئتهن, لمََ لا يعلم بقدرته الرب ويبارك الجميع, يغفر لهم دون الحاجة إلى سماعهن . لم أفق إلا وصوت عصاته يدب بها أمامي, قلت دون تفكير.

ـ يا لهؤلاء من أغبياء, يخطئن ثم يطلبن الصفح, ثم يخطئن ويطلبن الصفح, لمَ الثرثرة إذا بنفس الخطيئة, ناجي قل لي كم مرة تستطيع أن تكرر نفس الخطأ؟!

ـ نفس الخطأ, إن الأخطاء جعلت لنتعلم منها،لا لنكرّرها

ـ ماذا لو لم نتعلم منها.

ـ صوفيا, دعك من هذا الهراء, ما تقابلنا للحديث عن أخطاء تلك الفتيات.

مد يده، راح يتأبط ذراعي اتجهنا نحو حديقة العشاق, حيث التماثيل التي تبارك العشاق تصطف على الجانبين.

قلت مفرجة عن نفسي:ـ لا حول ولا قوة الا بالله, متى تنتهين؟ لدي أعمال ستتراكم لو تركتها للمساء, لن تتركني حتى يطبق النهار دفتيه عليها كفراشة في حجرة مظلمة.

كأنها قرأت حركة الشفاه فقالت:_ أبتعدي عن وجهي أيتها اللعينة, الآن لا تمتلكين شهية الاستماع, إياك أن تتأخري في تدبير أمورك المنزلية.

حملت الأطباق من أمامها, عدت بكوب الشاي الأحمر الذي تتناوله في الظهيرة, تركتها، انصرفت لعملي بالمنزل. جابت سيدتي البحر شرقا وغربا, تسبح بأنهار العسل وتعود بمرارة الوحدة, أحمرت الشمس، أعلنت الاستسلام لمطاردة الليل والتسليم له طواعية، لبست حجابها وانصرفت. عدت إليها وقد هبت رياح محملة بالرمال مددت يدي وبالأخرى العصا

ـ هيا سيدتي الجو بارد، أخشى عليك من المرض.

اتكأت على كتفي، قامت ببطء شديد كأنها تودع الشرفة لأخر مرة, كعادتها, حميمة في اللقاء وحميمة في الوداع. رفضت الدّخول إلى غرفتها في مثل ذلك الوقت, أصرت أن تجلس بالصالة الكبيرة, الحق أقول ما كان يشغلني جلوسها في أي مكان كنت أعرف بداية الحديث من المكان الذي ستجلس فيه. وضعت العصا بجوارها، طلبت مني كوبا من الحليب الدافئ, تطلعت إلى الرسومات التي تزين بها الحائط. عدت، جلست بجانبها, أنظر في الاتجاه الذي تنظر إليه علني أفهم شيئا, شعرت بشغفي لحديثها, فبادرتني:ـ أيتها اللعينة ريماس, تريدين مني الحديث, صحيح. تبسمت:ـ نعم سيدتي إنني أسمعك تقولين أن هذه هي الإسكندرية، عندما سافرنا لم أرها كذلك.

ـ إنها رسوم لمدينة الإسكندرية القديمة، عندما كانت تضم بين ذراعيها جميع الأجناس، من يونان، وشام، يهود؛ ورومان، لغات، وحانات، فنادق وشعراء عظام, تلك المدينة العريقة, واللوحات الرائعة التي نحتها الإسكندرانيون للطبيعة والناس.

وهذه و أشارت بيدها يسارا.ـ هذه أيقونات قبطية قديمة, لقد وضع أمامي هنا كل ما بهر عيني ليحوي العالم بين جدران هذا البيت, انظري هناك في الزاوية البعيدة, إنها صورة السفينة التي حضرت بها لأول مرة إلى الإسكندرية مع زوجي الأول ناجي, يوسف رائع, لم أر رجلا مثله قط, منحني العالم شعرا، ونثرا، رسما ونحتا, لقد استبدل بالكلمات هذا الفن الجميل ليقول لي أحبك

يعلم أن الذكريات تذهب بفكري لآخرين, لكنه كان مختلفا, لم يكن مثل أي رجل شرقي, لدرجة تجعلني أغوص في بئر مظلمة حين أحدثه, راقيا كشاعر, عشق شعراء اليونان وفلاسفتهم, كان شديد التأثر بشاعرنا العظيم.

أما اللعين ناجي يا ريماس,عندما أتفق مع الجدة هيليا أن يقدم أكليل الزواج في الكاتدرائية الكبيرة، يوم الأحد ويقيم حفلة زفاف فاخرة, أخذت هيليا تدعو الله أن ينزل العدالة الاجتماعية ويبارك هذا الزواج, كنت مرتعبة من تلك الليلة الأولى التى سأفقد فيها عذريتي, انتهت مراسم الزواج بالكنسية بالمباركة, بدأت الحفلة عندما استقبلنا قبطان السفينة بالموسيقى وبإطلاق الألعاب النارية, قدم عشاءَ ونبيذا يكفى لكل الموجودين على السفينة, قام بتجهيز كابينة فاخرة بأنواع مختلفة من الخمور المعتقة، ومن الدجاج المشوي، وبعض من أنواع الفطائر الدسمة.

في محاولة منه لفك طلاسم عذريتي, واعيا أنه تزوج من طاهرة لم تمارس الجنس, كان مرتبكا, الغريب أنّه أول ليلة, أطفأ الأنوار، خلع ملابسه, تركني؛ خلعت ملابسي، ارتديت قميص نوم حرير أبيض دون أي لباس تحته, طرحت نفسي بجواره على السرير, كان عاريا مغطى بالملاءة, تسرب الضوء الخافت عند الفجر, مازلنا نتحدث في ذكريات العشق التي جمعت بيننا, كنت انتظر متى وكيف سيبدأ الخطوة التالية؟!

مرتعبة, فيما أنا شاردة, نزع عنه الشّرشف، راح يقبلني القبلة الأولى محاولا رفع قميصي, حاولت الابتعاد.  إن مطابقة التفكير النظري للواقع أمر يصعب تنفيذه, تدفق الدم في جسده، راح البحر يرسل نفحاته الملتهبة في أوردتي, اتقدت النشوة في جسده, تقلبنا على السرير كمن يراوغ حرارة الشمس فوق سفح الموج ولا يصل للبر, شعرت بالملل حين لاحظت بعض الأمور التي بدت, أخجل الحديث فيها, فما يحدث ضعف منه و لا ريب, الأمر متعلق بشيء بداخله، يجعله يهرب لدقائق بعيدا، ثم يعود كأنه يتحدى نفسه دون جدوى. الصمت والعزلة كافيان لمواصلة الرحلة الخائبة لبداية عرس مأساوي، بدأ طازجا وانتهى بوضوح كتوم. لم يتحدث، و لم أسأل, نِمت بمرارة وغصة, أما هو فغرق في الخمر قلقا متوترا. في المساء كنت أخرج لظهر السفينة, كملكة تخفي همومها, وميض الضوء، السماء الساكنة, رؤية حيوانات البحر تطفو وتغطس, العاشقون يتمرغون غير مبالين بمن حولهم.  يشعلون ثورات بنفسي لم يكن لها مطلب سوى الدفء. سمعت طرقا، جاءني صوت القبطان, فتحت الكابينة تاركة الهواء يتنفس مع نظراته التي التهمت كل مواطن الجمال بجسدي, يتقدمه عربة عليها فطائر وشمبانيا, ثمرات التفاح مقطعة، مغموسة بالعسل, شكرته كثيرا, راح يمسك يدي ويقبلها. احتضني بقوة، استدرا بي, دعاني بلطف للشرب معه في كابينته الخاصة قائلا : ـ أما آن للفاكهة المنتفخة في ثدييك أن تعتصرا.                                                           آه ريماس كم هي رائعة لحظات الانتصار على الخوف, الخروج من المقدس واللامفكر فيه ليصبح فكرك طليقا حرا دون قيود. خيل إليّ أنني دخلت بصمت كما تدخل الروح الشريدة, مترددة , قلقة, متسائلة, أين هذا الشيء الذي أخاف منه, تراجعت, أرتجف كالممسوسين, احتضنني, قبلته رطبة, حملني إلى السرير, تعرينا معا, لأول مرة أشعر بلذة هذا الحيوان الذي ذبحني، وأرعبني, سقط العرق مع عذريتي في أحضانه, قبل بزوغ الشمس أسرعت على أطراف أصابعي بين الكبائن عائدة لسريري, خلعت ملابسي، ارتميت بجسدي أحلق في متعة النشوة , استفقت من وهمي حين رأيت القبطان يقوم بتحيتي ويسألني:ـ لمَ لم تلبي الدعوة سيدتي!

في مساء أخر ليلة أقام حفلة لتوديعنا, فستاني الأزرق كما البحر مرصعا بالنجوم تتلألأ، قبعتي المزركشة, خطواتي المتأنية مد أصابعه لأضع أطراف أصابعي عليها، يتقدمني متجها للحفلة, الآلات الموسيقية تعزف, وسط رقصات من جميع الحضور, كل شيء كان يحتفل بالحب, إلا اللعين ناجي يجلس على طاولة بين زجاجات الخمر والفتيات يداعبن رأسه، يرقصن وهو جالس ممسك خصر إحداهنّ بعصاه, وقد هوى على وجهه بجانب الكؤوس كحوت لفظه البحر.

كانت تقول إن سيدي يوسف حينما رسم لها تلك السفينة ضمن اللوحة كان يعرف ما حدث, فكانت تشير وتلفت انتباهي قائلة:ـ هل ترين اللوحة؟ تضم عالما كبيرا, الزحام على الأرصفة, تدافع الناس من جميع الأشكال والجنسيات, بين ذاهب وعائد، مستقبل ومودع, وتدفق الشيالين, البضائع, العربات ذات البغال تتحرك تئن من حمولتها, ألوان قبعتي وفستاني, لقد أحضر يوسف فنانا من فرنسا لينحت لي تلك التحفة, لم يكن غيره ليمنحني كل تلك السعادة دون مقابل, لقد مرت ثلاث سنوات وأنا بالإسكندرية, لم يحدثني عن جمالها اللعين ناجي, لقد انشغل بالتجارة مع اليهود في الذهب والأرض التي كانت تستهويهم.

في ليلة عاد ثملا تفوح منه رائحة الخمر, طلب مني أن أرسل في طلب الجدة هيليا, كنت أصف لها الإسكندرية، أغريها أنني بأجمل بقعة في الأرض يفوق جمالها تلك التي زارتها وجدي المسكين لأوربا. اخبرها بذهابي للأوبرا ودور السينما ومسارح البالية، لم أكن شاهدت شيئا من هذا, كنت أتطلع لحضورها فقد سئمت الوحدة, رغم أنني عندما غادرت اليونان ظننت أنني لم أقابل أيّا منهم قط, كانت الأقدار أن معظم أهل الإسكندرية من اليونان، والأتراك، الروم والشام، أجناس لا تفصلهم حدود، ولا تفرقهم لغات.

وصلت الرسالة الحاسمة من الجدة هيليا فيها رائحة البرتقال والشجرة العجوز التي تحتها رفات جدي. ابنتي الطاهرة حليما.                   لقد اشتقت أن أحيك تلك السنوات برؤيتك, ظمئت أن أشرب نبيذا مختلطا بكل اللغات والثقافات,إن زرقة البحر الداكنة تجرفني نحو بلاد الاسكندر الأكبر, ومسارح البالية التي تشعرني برشاقتك ونعومة أظافرك وأنت تحلقين حولي بالحديقة.

بيد أني يا صغيرتي الطاهرة, لم أعد أستطيع السفر دون رفيق, أحتاج لمن يقوم بتصفية ممتلكاتي باليونان؛ لنستقر معا بتلك الرقعة الدافئة لأكون على مقربة من أنفاسك.

ما إن قرأت الرسالة لناجي حتى تهلل فرحا, انشرح وجهه مبتسما:ـ صوفيا العزيزة من الغد تستعدين للسفر إنها تباركنا جميعا.            تطلعت إليه بدهشة, كيف لامرأتين السفر وتصفية الأموال، وعبور السفن والحقائب، القلادات التي تعتز بها هيليا!!!

ـ راح يدلك فروة رأسه موحيا أن الأمر عسير, ثم فغر فاه، تدلت شفتاه كما البغال.                   :ـ لا عليك صوفيا, أنا من يسافر لإحضارها وتصفية ممتلكاتها, آه يا عزيزتي كم يسعدني رؤية الجدة العزيزة والقيام على مصالحها.     مع نسمات الصبح الأولى كان يرتدي بزته السوداء، يضع قبعته على رأسه، يمسك عصاه يشق طريقه للميناء, تاركا خلفه قبلة، لوح لي بيديه حتى ذاب بين جموع المارين لم أتعجب من خيانته وجشعه, لأن هناك أمورا كان يدركها ويتجاوز عنها حتى لا يفضح سره, مخادع يرتدي بزة البراءة التي كانت تتسخ من وجهه، الذي تمرغ بالوحل من دناءته التي يستخدمها منذ أول ليلة لزواجنا، حين اكتشفت أنه..., ثم ظهرت شخصيته الفعلية, راح يعوض النقص الرجولي بجمع المال, بأي طريقة غير مبال بأي شيء. تعامل مع تجار من اليهود كعادتهم لا يعرفون الوفاء. وصل اليونان، باع ممتلكات الجدة لم يبق منها سوي البيت، الذي رفضت أن تبيعه لوجود جثمان جدي تحت الشجرة العتيقة, حملت في حقائبها القلادات المقدسة، وبعض الهدايا التي تحتفظ بها من جدي صعدت السفينة يصطحبها نحو كابينة مجاورة له, يعمل على خدمتها حتى تخلد للنوم. كان يجيد الخداع ولبس الأقنعة, لقد رأيت موقفا لن أنساه, إحدى الفتيات كانت عائدة في الليل يصطحبها رجل غريب بسيارته, فأوقفهما وصرخ :ـ هذا مكان أشراف لا نقبل مثل هاته الأمور.                                                        حين وضعت الفتاة مبلغا من المال في يده, أفسح لها الطريق. أحد الرجال يستعطفه يبكي أمامه, ليمهله بعض الوقت لسداد الدين, رفض هذا المرابي, طرده من المحل غير مبالِ بتشريده في الشارع, ثم قام بمنحه بضاعة أمام الناس لمساعدته. كنت انتظر قدومه وهو يحمل في ذاكرته معينا طافحا بالأكاذيب, كنت أعتدت السير في أروقه نفسه؛ التي نبت عشبها من ألف خدعة, ما كان يشغلني هو سلامة الجدة هيليا, بعد مرور أيام، وصلت إلي دار الدفء، ضممتها بصدري حتى ذابت كل السنوات الماضية.  لقد رأيت عصا الجدة مزهرة، من خشب يخيل لي أنها أول مرة تمسك بها، تفوح منها رائحة العطر وروح القداسة اليونانية، بلا وعي مني نظرت لعصاه وهو ممسك بها, شعرت باشمئزاز رهيب من نفسي, رحت أتعمق بداخلي, ابحث عن أسباب جعلتني أقبل هذا الزوج اللعين, أرى العصا والسوس يتجمع في بؤر ممتلئة بالديدان, يسيل منها نشارة برائحة خداعه.  لم يبذل سوى بعض كلمات وموسيقى مجانية تعلمها, إن من الحماقة أن نعترف بالحب الأول أو الحب من أول نظرة, على أنه حب أبدي, ربما يأتي الحب ونحن في الشيخوخة, أي وقت نجد السلام الروحي والصدق في المشاعر. بعد أيام من وصول الجدة زادت ساعات الغياب, أخفي ما يدور بداخلي، ألعنه في نفسي, شخصيته اللعينة وأرواح الشر التي ينتفخ بها عقله, جعلت تجار اليهود يدركون مفاتيحه جيدا.  الأمور تتضح أمام هيليا العزيزة، فهمت أني أخفي مأساتي معه, فلم أذهب يوما للأوبرا، ولا لمسرح الباليه، ولا حتى دور السينما التي تبعد أمتارا عن منزلنا.  تعاقب الأسود و الأبيض على البيت برتابة، وأنا أعتصر ألما, ظنا مني أنه استولى على أموال الجدة وهرب, كانت الأمور واضحة، والنتائج تخفي نفسها. حتى هذا اليوم الذي سمعتني فيه أطرق باب الجارة، لأقترض منها بعض المال.  عدت، وجدتها بالصالة واقفة مسندة يدها على الكنبة الكبيرة، مشهرة عصاها في وجهي, تلوح لي :ـ اجلسي أيتها اللعينة, ماذا كنت تفعلين عند الجارة, إن المرأة التي تمتلك ذهبا لا تمد يدها أبدا, أعلم أن زوجك قد تركنا ظنا منه أنه أفلح في خداعي, لكن يا صغيرتي هذه حماقة منه, لم يعلم أن المشتري الذي حضر للشراء أبلغني أن زوجك قد ذهب إليه يوصيه أن يقوم بتحويل الأموال باسمه, وألا يخبرني بثمن الشراء الحقيقي, ويا لرحمة الرب أن يكون هذا اليوناني أصيلاَ, كان صديقا لجدك في التجارة, حضر وأبدلت المال بالذهب من حوليات ومشغولات, اتفقت مع التاجر اليوناني أن يبلغه إنها أيام ويجد المبلغ باسمه بالبنك.

هاهو قد هرب في انتظار الشرك الذي نصبه لنفسه. رسمتُ إشارة الصليب ثلاثا, خطت هيليا بضع خطوات، أخرجت الصندوق، وضعته على حجرها وفتحته أمامي:ـ لقد أخبرته أن هذا الصندوق به بقايا من تمائم وحطام منزل جدك بفلسطين, تجلب النحس على من يفتحها, وأن روح كارون إله الموت محتبسة فيه, تعود للحياة بعد أن تغلق الصندوق على من يفتحه, يا له من أحمق, إن الأرواح الشريرة كامنة في قلبه بتوا طؤه مع أولئك النخاسين. هذه أوراق تثبت ملكيتك لمنزلك باليونان, لقد أعدت صياغتها باسمك.  لتسمعيني جيدا حليما, أن هذا الزوج شرك لابد أن تتطهري منه, يتعامل مع اليهود, أولئك الذين طردوا جدك وجعلوه بلا وطن, كان يئن ويقول:ـ هيليا ليس هناك بديل عن الوطن, تلك الجذور الممتدة مع الشرايين مع كل ُسلامة, مهما بنيت من عقارات وامتلكت المال, لن يعوضني هذا ليلة قمرية بوطني، وأنا آكل خبزاَ ناشفا وقطعة جبن آمنة، هؤلاء الصهاينة لا عهد لهم ولا أمان, يمسكون معول الهدم، يدكون أعناقنا بلا رحمة ولا شفقة, إنهم يخصون الرجال، ويستحيون النساء, يذبحون الأطفال, إن تجارتهم خاسرة لا باركهم الرب أبدا.  رفعت الجدة قدميها، تمددت على الكنبة، أسندت رأسها للخلف, راحت تعبث بشعرها كأنها تستحث الذكريات بالنهوض.

:_تعلمين حليما لم تركت لك البيت باليونان؟!

ليس فقط لأن الشجرة العتيقة تحتها جدك, لا صغيرتي، إن الأموات يبعثون فينا كلما اشتاقت لهم الروح.  شعرت بالبشاعة والجرم حين فكرت أن أبيع جذوري وبيتي, المال لا يشتري وطنا بالعالم, إنها الغربة تظل تنهش بك, إن الذهب قد يشتري لك بيتا فاخرا, لن يشتري جذورا لهذه الأرض، التي نبتت فيها نطفتك الأولى, مثل الشجرة العتيقة, مهما تشعبت تظل مكانها ثابتة.

شعرت وأنا أسمعها بالامتلاء, رأسي يكاد ينفجر, قطرات التعب تغرق وجهها من أمطار الذكريات المؤلمة، لن تصمت إلا إذا قاطعتها, فبادرتها:ـ سيدتي صوفيا ما رأيك لو أننا الآن ذهبنا لغرفتك كي تستريحي, وبالغد نجعلها فسحة في الممشى، نذهب لمجمع المطاعم للغداء. لن أنسى صرختها يومها وهي تحاول تغليظ صوتها الحنون:ـ ريماس أيتها اللعينة ماذا تظنين نفسك, من قال أني أريد الخروج غدا, من يقرر ريماس من؟! اقتربت من جبينها، رحت ألثمه بحنان وقوة, نظرت لي برفق،:ـ أيتها اللعينة، إن قلبك الطيب هو ما يجعلني أهبك عمري, سنخرج غدا. أمسكت بيدها أساعدها كي تنهض, تمشي ببطء، برفعة تفرد صدرها وتمشي بخيلاء, رغم رائحة الشيخوخة التي تفوح من جلدها المنكمش. تصعد على السرير، أدثرها حتى لا تنادي على آخيلس الموجود بفكرها كل ليلة, انظر لها تبتسم, تبادرني:ـ أيتها الصغيرة إنها برودة المشاعر وجليد الفقد. أضع على خدها قبلة سريعة, أسارع في اتجاه باب الغرفة, تتملكني رجفة مخيفة, أول مرة أشعر أن اللوحات تتحدث, تبا لك أيتها المرأة, كيف استطعتِ أن تسجلي هذا العالم بين جدران قلبك وبيتك؟! تخيلت أن التحف تراقبني, تسمع حديث نفسي, فقلت: إنها طيبة ورقيقة أحبها, وطمرت رأسي في الوسادة.