(1)
السلام الذي كانت تتمتع به سيدتي يجعلها ترى العالم بعينين مغسولتين, هكذا كانت تتحدث لتثبت أنها غير كل النساء, تسعد حين يداعبها أحد قائلا: أنتِ سيدة النساء. هاهي الآن ممدة أمامي بلا حراك، ما عاد الشعر، ولا البحر يؤثران فيها، لم تحمل معها حقيبة الذكريات، تركتها بقلبِ يئن بها.كنت أراها كل صباح امرأة محبة للحياة، رائعة العينين، كانت تدهشني ذاكرتها التي لم تضعف بحكم السن، جسدها الذي كانت تعتني به كأنها تستعد لعرسها، كالمحارب الذي لا ترهقه الرحلة بالذكريات، لا يتعبه السفر مع الأيام. كانت تذهب لسريرها, كغيمة تصفعها الرياح تأخذ بالاصفرار, تمطر بلا صوت.ألعن هذا العالم الرديء, إن الحياة قاسية مع الذكريات.كان الربيع ينبت خلسة في قلب سيدتي, النهار يقصر، فيبدو وجهها ميدالية مستديرة لملكة فرعونية, أغمضت عيون الليل قلبها مثل غيمة رخوة, تطارد رياح الأعالي تتمزق وهي تتذكر كيف كانت تبحث عن السعادة, وهي أقرب من خطوة واقفة بين يدي القدر. بدافع الفضيلة، آلت إلى هذا المكان وحيدة.كانت كثيرا تفكر، تنظر لي تنطق أسمي كما يحلو لها :ريماس صغيرتي, ليس هناك من يعلم أحداَ الحياة, لابد أن تتعلميها بنفسك، وبوعي كاملكانت تحيك خبرتها في كلمات تحمل معاني بإيقاع الحب، كانت الحياة حبات رمال تنساب، من يديها على إيقاع ساعة رملية.تعود بالزمن وهي تروي لي: في قداس الأحد بدير العذراء, أسير كفتاة راقية, أشتم رائحة البخور, كموج بحر يتصاعد ببطء في جسدي, أتأمل القبة الخضراء من أعلاها إلي أسفلها, زخارفها الذهبية, كأنها شعري, العذراء شامخة, تتدليصورتها فوق صدري, لتبارك تلك الأيقونة الصغيرة جسدي النحيل, يؤلمني مشاهدة الآلهة المصلوبين, يتسرب النور إلى روحي، وأنا أمر أمام الشمعدان البرونزي بضوئه الشاحب يراوغ عتمة نفسي أمام العذراء.عندما تجاوزت عتبة الكنيسة, كان يلاحقني بعينيه الصغيرتين, مناديا: صوفيا. لم أدرِ لمَ توقفت لأنظر في عينيه الخضراوين، تشع منهما خصوبة الأرض, شعرت أن الأيقونة تنجذب نحوه راضية تماما, قلبي يطفح بالسعادة, تأملت الأيقونة التي أنارت وجهه، رأيته كأنه الأمير بولس.بدا لي أنني أصعد نحو سماء صافية أكثر عذوبة, رسمت إشارة الصليب ثلاثا, ابتعدت, شعرت بموسيقى الصمت تعزف على أوتار النجوم.يصلني صوتها الحزين: تعلمي ريماس الصغيرة؛ إن الرجال مثل الوعول العاشقة. وضعت يدي على صدغي أعيرها انتباهي, وقد شحب الضوء من وجهها، كنحلة فقدت أجنحتها في غزوة, لم يبق منها سوى شذرات عسل بداخلها تشهد على أمجادها. كان حضوره اللامرئي أمامي, يجعل من أيام الآحاد فسحة للروح، طراوة للقلب. مولود بالإسكندرية, رغم إقامته لفترة قصيرة باليونان, إلا إنه تغير, مسخ هويته، استخدم الحرية في إظهار تحرره من الأعراف والتقاليد الشرقية المتزمتة. جدتي هيليا كانت ترتدي نظارتها السميكة، تخيط الجوارب, كأنها تحيك آلامها, في الباحة الخارجية الضوء ينسل من القنديل المشتعل, تراقب تصرفاتي عن كثب, تتجاوز عمّا يلقيه من رسائل تحت الباب, مستعيدة رؤيته بأول رجل في حياتها.ترفع بين الفينة والأخرى نظارتها، تنظر لي بهدوء, تحذرني من التفريط, وهو يقف على بعد يعزف على الكمان لحنا شرقيا.تهتز قليلا عندما تنتشي من العزف الذي لا تفهم منه شيئا سوى الإيقاع ، تبتلّ أجفانها قليلا, بينما تحولت الموسيقى تدريجيّا إلى كلمات كالمواساة.الليل يرسل نسماته الدافئة في قلب الجدة هيليا, تعيد على مسامعي الحديث المكرر لكل ليلة، تحيك ذكرياتها، كأننا على موعد للسباحة في ظلمة، ثمّ ننتهي لنعود لنقطة البداية. حليما ( هذا هو اسمي الأصلي) حين أتى جدك إلى هنا لم يكن يمتلك شيئا, لقد غادر فلسطين حين فتح الأمريكان باب الهجرة عام 1921م, عندما منع من دخولها لسبب مرض في عينيه, غيّر مسار حياتي بحضوره إلي اليونان, آه حليما كنت كالنهار رائعة بوضوحي, أرتدي القبعة والفستان المزهر, أسير قرب شجرة صفصاف, جذعها كخميلة حوت العالم بين ظلها, كان نائما بنصف عين, عيناه السوداوين كحبات البندق يخالطهما احمرار, همَّ واقفا محاولا السير, مترنحا يبدو عليه الإعياء, كنت في طريقي لسماع القداس في الدير, بدا لي شيطان جدك، متمثلا أمامي في صورة طفل يبكي يرجوني المساعدة بحق المسيح, سمعت أجراس الدير البعيدة تناشدني طرد الأرواح الملعونة، ومساعدة الأنفس الجريحة، و كان هو الاثنين معا. حينها استدرت، رفعت تنورتي التي كانت بزرقة السماء, انحدرت بمحاذاة الماء، ملأت كفي، عدت بما تبقى من الماء، أنثره على وجهه الشاحب الذي يأفل, لعلني أتيت بقدري, عندما عدت به إلي منزلي, طردت الأرواح الشريرة بكثير من الشموع التي أشعلتها. كلما شعرت أن آلهة الضجر قد حلت فيه، رددت أغاني الحب التي ينشدها الصبايا, ظل جدك ثلاثة أسابيع حتى تعافى تماما، صار قادرا على الرحيل, قبل مغادرته، قررت أن أحتفل بوداعه, أعددت له حساء من دهن الخنزير، كان لا يعرف طعمه، وبعضا من السمك المدخن, أكل وشرب حتى فرغ, سألني: ما ألذ هذا الشراب..فتثاءبت: دهن الخنزير.طقطق أذهنه، كأنه يسمعها لأول مرةـ :ماذا قلتِ؟! دهن ماذا!! ضجرت منه لتحوله المفاجئ الذي ظهر عليه في أقل من الثانية، تعجبت لهذا الإنسان الذي يستشعر الضجر بعد استمتاعه باللذة. إنها الرغبة التي تجذبه، ثم ما إن ينتفخ بطنه، حتّى يبدأ في التساؤل والاعتراض, ما أقبح هذا الرجل الذي شبع، وضجر؛ ولم يشكر, أحسّ بأنني ذهبت بعيدا فلوّح بيده أمام وجهي: هاي .. هاي نحن هنا أين ذهبت هيليا العزيزة؟ كنت أحاول أن أتماسك, بعد دقائق سيرحل هذا الرجل البدائي, الحق يا حليما أن روحه كانت شفافة.أجبت:لقد جهزت لك العربة التي ستنقلك إلى المدينة لعلّك تجد حظا وفيرا بالعمل هناك. نظر إليّ وكأنه جمع هذا الكون في راحتيه، يقبض على يدي, صمت طويلا، ثبت عينيه السوداوين يستعطف قلبي, ابتعدت محاولة خلاص يدي منه,عانقني بقوة, ثم.....ثمّ كأنّ السّماء صارت في متناول يدي..ـ ثم ماذا حدث جدتي، هيّا تكلّمي؟! _ تبا لك أيتها الصغيرة، إنّ ما حدث لا يقال للفتيات الطاهرات مثلك.لقد قام مسرعا يحل العربة، يدخل الحصان الإسطبل, وقف أمام الشمعدان, ينفخ فيه صرخت: إنها تطرد الأرواح الشريرة.ضحك حتى رأيت أسنانه لأول مرة: لم تعد هناك أرواح شريرة عزيزتي هيليا, من الآن ستصبحين مدام زكريا، ليباركنا الرب، يشهد على زواجنا الآن، وإلا أطفأت كل الشموع.: يا له من شيطان أراه الآن في صورة طفل يضحك وهو متعلق بثدي الأرض.الأسماك، الفراشات تتحد الآن, تسربت الغيوم تحمل الأتربة, تذكرت نافذة لم تغلق, اتجهت ببصري نحوها, قلت مفرجة عن نفسي: لعلها المسافة التي طويت بين دفتيها الاحتياج للسلام النفسي، والجنسي الذي جمع بيننا الآن.حملني، سار بي, لأول مرة يدخل غرفتي الخاصة، بعد أول رجل حطّم سوار عذريتي, كان يقف في نفس المكان الذي تأتي منه موسيقاكِ الآن, كان يعزف بأكثر من وتر, مخادع, لم أتحمل مرافقته طويلا, بينما جدك كان يحمل الدين في عنقه قلادة لا تبرحه، كان يردد تلك القلادة المقدسة هي من منحته الحياة الطيبة. كان لدي الكثير من الأغنام، والبقر، وبيت كبير، كنت أمتلك عربة يجرها حصان أصيل, جدك كان نشيطا، يصحو يطارد الظلام من عينيه حتى تتفتح الأزهار بين رموشه، فيصيح: هيليا العزيزة صباحك مزهر مثل حبات الندي. يرش على وجهي قطرات الماء, كنت أفتح عيني، كأنهما حصوات سدت بهما فجوة العتمة: آه حليما نسيت أن أصف لك صورة جدك. _:ـ لا هيليا العزيزة لم تنس، فقد كان شعره رماديا منسرحا على كتفيه, عيناه سوداويين، شاربه أييض، ممزوجا بالسواد، مقوسا حتى نصف صدغيه. : أيتها الملعونة, ماذا تريدين مني إذا؟! أسرار الغرفة المغلقة! مضت ليال، لم يأت المساء بعزفه, رحت أتجول في الحديقة لعله في الجانب الآخر, نادت هيليا العزيزة عليّ:-ـ حليما صغيرتي تعالي لدي ما أخبرك به.أسرعت نحوها، جلست قبالة قدميها مثلما تجلسين الآن ريماس صغيرتي.أتدرين ماذا قالت:ـ إن الرجال لا يحملون الوفاء بين ظهورهم, إنهم يبحثون عن الجنس دون ثمن, والمال دون جهد, تهمس ظنا منها أني لا أسمعها, لتلعنك الآلهة أيها المحتال, تشرد قليلا, تستطرد بصوت أعلى, ليباركك الرب ويحفظ عذريتك.ظللت واضعة يدي على ركبتيها، انتظر لعلها تأتيني بما يهدئ من البحر الثائر بين رئتي, فحملت يدي الصغيرة، قبلتها:ـ حليما إن كان يحبك حقا، سينتظرك عند أول قداس وبيده أكليل الزواج, لقد أمضى وقتا طويلا في العزف، وفي إرسال الرسائل الزرقاء، لتعلمي أن راهبة الدير قد استدعتني، أبلغتني بتأخيرك عند عودتك للدير يوم الجمعة, صغيرتي لننتهي, دعيني أفرز نيته بطريقتي. لقد أطلقت شائعة منذ أيام في القرية أن أحد الأغنياء يريدك زوجة له. أغمضت جدتي عينيها، تنادي القديسة، تستحث العازف الذي ما عاد يشدو فوق غصن الخميلة، بالحضور حتى لا تلتصق الخيانة بالرجال جميعا, ولا تخيب آمالها فيما آل تفكيرها. تحركت لأجلس على الكرسي, فاغرة فمي, أتعجب من أين أتت الجدة بهذه الحكمة, إنها قسوة تجربتها الأولى التي تجعلها حذرة هذه المرة, ماذا لو مرت الأيام، لم يأت, لربما اتجهت الرياح فوق تلة أخرى, لاحظت هيليا أنني صعدت جبال الخوف، بت أبحث عن بولس, صوتي يهدر كالبحر المفترس يلعق بلسانه ما تلوكه القرية حتى لا يصله منها شيء.تستعيد خيوط الليل بين يديها, معلنة بصوت يهمس حنينا :ـ لن أسمح للدود أن يقرض أوراق قلبك أيتها الطاهرة. تتحرك ببطء، نحو الشجرة الكامنة في صدر الحديقة حمالة الأسرار, تتلمس أوراقها برقة, مشيرة إليّـ :حليما العزيزة .. إن تلك الشجرة لا تنبت ما يحلو لكِ، إنها تنبت بذرتها الأولى, لها وقت حصاد معلوم, لم تأت يوما بغيره، لم تمنع أحدا أن يستظل تحتها, لقد دفن تحتها جدك, انظري جيدا لقد جعل الجذع شاهدة له كتب عليها( إنها أعمق حين تمتد غير عابئة بالديدان) هذا يا فتاتي ما يجعلها شامخة, معطاءة, رغم ما يتكاثر تحتها من ديدان، ونمل، وسوس ينخر في جذعها. ظننت أني أبحث عنه على الكرسي المجاور لمسكن الطالبات الراهبات, وأنا عائدة يوم الأجازة الأسبوعية، ليصطحبني إلى الساحة، وقد آتي لي ببذر اليقطين المحمص, يعلمني العزف على آلة الكمان, تنبهر أنفاسي وتنتفخ أوردتي, حين يمر النهار ببطء كدخان يتسرب بين أوردة الوقت بلا وعي. يصطحبني إلي الميناء، لنرى السفن التي سنبحر فيها ونقيم بأحد كبائنها ليلة الزفاف, نستمتع بموسيقى الشرق، وليالي الإسكندرية الدافئة.معاناة كبرى في صدري, غيوم حارة تصفع صدغي, تنهدت، خرج البحر من أنفاسي شرسا، يهدر بقوة في زفير أزرق يغلي, لم أفهم ما قالته هيليا، لم أشأ أن أخبرها بما كان بيننا من عهد, يكفي أنها تعلم القليل. أتذكر أني سألتها:ـ أكان وسيما؟! _:ـ يالكِ من .... تذكرينني بنفس السؤال، كأن الأيام تعزف بنفس الوتر, كان وسيما، إلا أنه كان يعاني من شلل الأطفال بقدمه اليسرى, كان يدهشني بحديثه:ـ إن المصريين هم ملوك الخطابة.كنت أضحك وأرد : هيليا أيضا من فلاسفة اليونان، إن هذا العالم الكبير حَوَته تلك الشجرة المباركة في جذورها، جعلت من النمل حراسا لها، هكذا تقول هيليا, إن النمل تحت الشجرة لا يقرض من يحب, إنه يقرض من لا تريده تحتها, أن الشجرة لا تفرق بين أجناس، ولا بين الألوان،لا تضع حدودا لجذورها فهي تمتد حسبما تشاء, تظل ترتفع غير عابئة بغيوم، ولا برياح صفراء, كانت تُرجع الفضل في نبل الشجرة لجثة جدي المدفونة تحتها, لقد ارتوت منه بكل الصفات, من الصبر والصمت، الجهاد، والخضوع، الكبرياء؛ والحكمة ، والقوى، وفي ثمارها تجد المتعة واللذة. كان الليل يخيّم, سيدتي صوفيا تتثاءب, نهضت أحضر لها العصا لتستند عليها، وقد احتضنت الظلام في عينيها, حتى وصلت لسريرها, راحت تصعده ببطء خشية الانزلاق. أطفأت الأنوار وشرعت في غلق باب غرفتها, سمعتها تنادينيـ : ريماس صغيرتي, هل تشعرين برغبة في النوم؟! تنهدت بصوت وصل إلي أذنها كأنه صرخات, بادرت مسرعة:ـ طاب مساؤك صغيرتي, لا تطفئي نور الرواق, دعيه يتسرب منه الضوء. ذهبت إلي غرفتي, ما إن وضعت رأسي على الوسادة حتى ظننت أن السيدة صوفيا تناديني, هرولت إليها مسرعة, أسير على أطراف أصابعي, أسترق السمع, لعلها نامت, سمعتها تحدث أخر أزواجها, تدعوه أن يلتصق بها، يدثرها من شدة البرد, عدت ورحت في نوم عميق.