انتهت الآجال المحددة لوضع ملفات الترشح لدى السلطة الوطنية المستقلة لتنظيم الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها، وسط ظرف استثنائي غير مسبوق في طوارئ السياسة بالجزائر، ورؤية أولية لقائمة من أودعوا ملفات ترشحهم، تبرز الغياب القاتل لقوى ثورة الحراك المستمر منذ 22 فبراير الفائت، عن العرس الانتخابي، والغياب المنطقي لجيل ثورة التحرير الوطني.
وما بين الانزياح الطوعي للحراكيين عن العملية الانتخابية بحسبانها نازعة عن اللحظة الثورية الحاصلة بالبلد، وبالتالي لا تحمل معانيها ومطالب سياقها التاريخي، والإزاحة الموضوعية لجيل الثورة بقوة حتميات التاريخ ومفروضات الزمن، بدت أسماء خارج نطاق المشروعين تقطعان مع الاستمرارية الثورية التي تنتقل من جيل التأسيس الذي أخفق في بناء دولة الاستقلال وجيل التجديد الذي يروم "تصحيح التأسيس" عبر مسار جديد يولد من تراكم التجربة الوطنية.
من أبرز الأسماء التي يضمن حضورها للسلطة الفعلية عدم بلوغ التغيير مدياته المأمولة لدى شباب الحراك، ثنائي الإدارة والسلطة في النظام السياسي الذي حكم الجزائر ستة عقود كاملة، وتشربوا روحه وفكره وشابوا على فلسفته ورؤاه، أحدهما مثل مبدأ الحلقة الأخيرة من النظام ونعني بها البوتفليقية وهو علي بن فليس قبل أن يبعد أو يبتعد عنها، والثاني مثل منتهى هاته الحلقة قبل أن يُطرد منها شر طردة نهاية 2017.
فما حقيقة ما يحمل هذين الرجلين من مشروع يقطع كما يزعمان مع محضن نشأتهما السياسية؟ وكيف يمكن لهما أن يجسدا مطمح التغيير العميق لجيل مصر على التحول من نظام تهالكم في أحلامهم وأمانيهم إلى نظام جديد يعكس وعي العصر بمنطق الدولة المتغير ومصلحة الوطن الثابتة؟
هنا تجبرنا التساؤلات تلك والتي قد تتوالد عن الإجابات عنها، إلى العودة إلى الأصول السياسية لهذين الاسمين، حتى نستكشف طبيعة تطورهما السياسي ما سيدلنا حتما على حقيقة موقفهما من الحراك، في مبدئه ومنتهاه، كوسيلة وغاية في حسابهما لبلوغ مأربيهما وهو الوصول إلى منصب القاضي الأول في البلاد.
فالواضح هنا هو أن الرجلين ينحدران من ذات العائلة السياسية وهي عائلة الحزب الواحد التي ظلت السلطة الفعلية (الخفية) تضعه في الواجهة لإضفاء الصفة المدنية على الحكم، وبالتالي ظلا يمضيان معا سنين عددا وفق هذا البرنامج Logiciel ينتقلان فيما بين الادارة والسياسة إلى أن جاء بوتفليقة إلى هرم سدة الحكم بمشروعه التخريبي للدولة وللوطن معا فكانا في موقعهما من هذا النظام على طرفي النقيض، إذ في الوقت الذي جسد بن فليس أحد مؤسسي نظام بوتفليقة، منطلقه ومن المبكرين بمغادرته، كان تبون أحد خدامه الأوفياء ومن آخر مطروديه.
في أحد أحاديثه للصحافة الوطنية وهو يرد على سؤال صحفي عن سبب قبوله قيادة الحملة الانتخابية لبوتفليقة سنة 1999، قال علي بن فليس أنه لم يكن يعرف بوتفليقة معرفة دقيقة، حتى في ظل انتسابهما لحزب واحد (جبهة التحرير الوطني) والتقائهما عادة في اجتماعات اللجنة المركزية لهذا الحزب !
طبعا لا أحد يمكنه هضم هكذا حجة سخيفة من سياسي وحقوقي مثَّل الجيل المثقف لحزب السلطة منذ الاستقلال، ذلك لأن بوتفليقة زيادة على كونه كان أول من ثبت في حقه تهمة اختلاس المال العام من بين رجال دولة الاستقلال من قبل مجلس المحاسبة، وهذا وحده كاف للتوجس منه وعدم الانخراط معه في أي بادرة سياسية فما بلك بمشروع دولة، فإنه (أي بوتفليقة) وُشم في أدبيات السير الذاتية لرجال الحركة الوطنية بنشاطه التخريبي للعلاقات بين القادة والمؤسسات الثورية لصالحه شخصيا أولا ثم ولصالح الجماعة التي كان ينتمي إليها، مثلما جاء في كتاب فرحات عباس الاستقلال المصادر.
وهنا تبغي الاشارة إلى أن عودة بوتفليقة للحزب ولقيادة الدولة ما كان لها أن تتم إلا بعد أن تم إبعاد الشخصيات التي مثلت عقبة أمام عودته أو بالأحرى إعادته من قبل نواة السلطة الفعلية وهي جهاز الاستخبارات، الذي كان يقوده وقتها الفريق توفيق المحبوس حاليا بسجن البليدة العسكري، ومن تلك الشخصيات الراحل عبد الحميد مهري الذي استمات في الدفاع عن استقلالية قرار حزب جبهة التحرير الوطني التي كان يستمدها من شرعية العهد السياسي الجديد المتمثل في التعددية التي أقرها دستور 1989، تلك الاستقلالية وسيادة قرارات الحزب التي صار يمارسها لأول مرة منذ أن استولت عليه جماعة وجدة في انقلاب صائفة 1962 هي من جعلت قيادته ترفض منح الاعتماد لحزب الشعب عام 1990 باعتباره يمثل ذكرى سيئة للحركة الوطنية ولثورة التحرير الوطني لوقوفه ضدها، وامتناعه عن إعطاء الدعم السياسي للرئيس زروال بعد انتخابات 1995 التي زورت (لصالح الوطن) كما أشيع، مواقف جعلت رئيس الحزب الأستاذ عبد الحميد مهري يدفع الثمن غال إذ تم الانقلاب عليه ثم تهميشه ومحاربته، وأعيد الحزب إلى بيت الطاعة إلى غرف السلطة الفعلية لتفعل به ما تشاء من أعظم ما فعلته به من جرائم فرض بوتفليقة عليه وعلى الجزائريين رغم سوابقه العدلية والسياسية والأخلاقية التي لا يمكن لرجل سياسي وحقوقي مثل بن فليس الادعاء بجهلها أو تجاهلها، كي يبرر قيادته لمشروع بوتفليقة الشيطاني الذي دمر أساسات دولة التحول السياسي التي حلم بها الشعب من الأحادية إلى التعددية من وهم الكاريزما إلى واقعية الجماعة وحكم الشعب.
في الطرف الآخر ظل تبون إطار للدولة يعمل في الجماعات المحلية ثم ارتقى إلى مصف العمل الحكومي بداية من تسعينيات القرن الماضي، أين طاف بعديد القطاعات التي لم تقم لعها قائمة في حركة التنمية الوطنية، إلى أن بلغ منصب الوزير الأول الذي لم يدم فيه أكثر من شهرين ليزاح بطريقة مهينة من شقيق بوتفليقة، رغم قسمه الشهير أنه لا رؤية له ولا مشروع يحوزه سوى مشروع بوتفليقة، وسيضحي بأثمن ما يملك لتجسيده والدفاع عنه.
تبون تم الدفع به إلى فوهة المدفع، ليواجه غول الاوليغارشية التي تكونت من المال الحرام أو المال الفاسد بتعبيرات الخطاب السياسي، ليظهر وقتها غباء في كيفية التعامل مع ذلك الوضع حين اندفع خطابيا وإجرائيا في مواجهة عصابة المال تلك، بشكل نمَّ عن افتقاره للحنكة السياسية التي كان يعتقد أن التجربة الطويلة التي راكمها في الجهاز التنفيذي حين كان يقود الجماعات المحلية قد منحته إياها، فانتهى مطرودا مدحورا من السرايا مثلما جاء، وقسمه بالولاء لبتوفليقة باق خلفه يهز فضاءات الافتراض في الانترنت.
فالثابت إذن، أن دعوى القطيعة المبدئية مع البوتفليقية لهذين الرجلين لا تعدو نطاق الخطاب السياسي (الانتخابي) طالما أنهما يشتركان في ذات القصة السياسية، جملة، في كونهما أبناء النظام، وتفصيلا، في جزئية تجسيد كل واحد منهما لفترة أو مرحلة من حكم بوتفليقة المَهين المُهين للجزائر، غاية ما في الأمر أن بن فليس دفع ثمن انحيازه لفريق داخل النظام نفسه كان يرفض استمرار بوتفليقة في الحكم، وتبون دفع ثمن تهجمه على طرف في نظام بوتفليقة بخطأ استراتيجي كما أشرنا، فهل يمكن والحال هذه أن يصدق أحد بأنهما يمثلان النقيض الموضوعي لمشروع نظام تربيا فيه وتقلبا في مراحله ولم يحملا من وعي سياسي غير ما لقنهما إياه حول الدولة والمؤسسات والتاريخ؟
أبدا لا أحد من جيل الحراك الثوري يمكنه الاعتقاد بذلك، وهو ما يعني عدم امتدادهما في سياق اللحظة الثورية الجديدة المجددة القاطعة مع نظام تمرد على مواثيق الحركة الوطنية مفجرة الثورة، ويريد (الحراك) تصحيح المسار على النطاقين الزمنيين الماضي والحاضر معا.
بشير عمري
كاتب سياسي جزائري