وقفات حول الآية(2) من سورة الأعراف

2

 ولعل سؤالا له وجاهته مؤداه: ما قيمة الإخبار بإنزاله على الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولاثمة اعتراض من مسلم أبدا؟! والجواب؛ أنه امتنان من الله تعالى على عبيده، وتذكير لهم بنعمه، وشحذ لهممهم أن يقوموا بالكتاب ولايدعوا منه شيئا، ثم إن فيه تسلية للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بما سوف يلاقيه من عنت في مواجهة إنكارهم للكتاب. وقد كان!

 والتذكير بإنزال الكتاب فيه قصرلمهمة الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كونه مبلغا عن الله تعالى وحسب. وتلك قيمة عظيمة من اتصافه بالاتباع، وبراءته من الابتداع نهجا لنا نتبعه، وسبيلا علينا ترسمه، وصدق الله(قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا)[الإسراء:93]. وما اختلط الأمرإلا يوم أن دس كل بأنفه وأدلى كل بدلوه في دينه تعالى.

وكونه منزلا على الرسول فيه إعلاء بشأنه، وطمأنة لقلبه، وشرح لصدره، ورباطة لجأشه، ذلك أن الله تعالى كما أنه تولى إنزال الكتاب عليه فإنه تعالى أيضا متوليه وحافظه وراعيه ومكلؤه يوم تشتد عليه الأقوام، وحين تثورعليه الأفواج. قال الله(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[المائدة:67].  فللدعوات تبعاتها والقرآن زادها والكتاب حصنها.

وفيه مخاطبة المسؤول الأول وعدم تخطيه. إعمالا لما يسمى في علم الإدارة بالهرم الإداري. كيما تتحدد المسؤوليات وكيما تنتظم المساءلات. وفيه أيضا تعويد الأمة على الإتباع، والنأي بها عن الابتداع، والأخذ بأيديها نحو منهج الاقتداء يوم أن يعلي الله تعالى شأن رسوله، فبالتبع سيعلون شأنه فيسود النظام، ويعم التقدم والعطاء.

وما تأخرت أمتنا إلا يوم أن تخطى أدعياء الرؤساء سلم الإدارة وهرم الإتصال واتباع طريق الأدنى فالأدني حتى ليصل القرار من أعلى قمة الإدارة إلى أدناه سلسا متقبلا لتنتظم الإدارة وكأنها خلية نحل تدوي. كلٌ باحث عن عمله، على أكمل وجه ممكن، بأجمل اتقان, وأعلى تفان، وذلكم دأب الناجحين لاسواهم!.

 وكونه كتابا منزلا فيه توجيه للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولأمته كذلكم أن يعدوا عدتهم لتلقيه قبولا، ودراسة ما فيها، إعمالا به وانتهاجا بنهجه واقتداء به-كله- كيما يسعدوا دنياهم، وكيما لايشقوا أخراهم، وعلى هذا كانت سيرته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسيرة صحبه والقرون الثلاثة المفضلة. حتى به دانت لهم الدنيا، وبه كانوا مستغنين. فهلا اغتنينا به!

 ولمحة إلى أنه جاء هكذا(كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ) فذكرالله تعالى(إلى)الغائية وكان لافتاً عدم ذكر(من)الابتدائية! وهذا- لعمروالله - من أسرار البيان، وآكد الإعجاز!

وأستعين بربي الرحمن لبيانه وهو المدعو وحده تعالى أن يلين الحق لبناني فلاأخطئه وأن يجعل الصواب على لساني فلاأعدمه وهو رب كريم أبدا سبحانه.

أما وقد جاء النظم خاليا عن(من) الابتدائية فلأمورمنها: يقين العلم ألا يكون منزلا إلا من لدنه تعالى. ومنها طلاقة السلطان وتقريره أنه(من لدنا)! شاء من شاء وأبى من أبى! وهو مقتضى قيوميته، وموجب إلهيته وجبروته وقهره وسلطانه وأمره ونهيه. ومنها تشوف الشارع الحكيم لتصديق عبيده بقوله. وهم أولاء!

 وخلو النظم عن(من)دأب القرآن الكريم ألايدع لشاك مدخلا وألا يترك لمتخلل خلالا لينفذ إلى سبيل الظرفية مكانا! ليؤول به زعمه بالمكانية والجهة لله تعالى. فقطع النظم ذلكم طريقا على آله. ليبقى الله تعالى ربنا الرحمن(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى:11]سبحانه!

 وقد تضافر النظم القرآني على كون ربنا الرحمن سبحانه أحدا فردا صمدا بائنا عن سائر من خلق- وهو الحق- إذ لامشابهة بين خالق لسماوات سبع وما فيهن ولأرضين سبع وما فيهن مماعلم الناس أويعلمون أو سوف يعلمون! وبين مخلوق كائنا من كان! قال الله(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[فصلت:53].

وتأكدت هذه العقيدة الصافية لدى عبيده تعالى حتى صارت علما عليهم نقاء لاريب فيه صفاء لاشك فيه! تعلمناها من رسوله ومصطفاه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأنه قال(اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ[مسلم:4894]. وأي سلاسة لعقيدة في الله كهذه؟!

وقوله تعالى(كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ)فيه تنويه بشأن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ورفع لمقامه كيما تكون له الولاية عن رضا وقبول بما أعطاه ربه من ملكات، وبما أفاض عليه من بركات. ذلك أن الأمة لما تجتمع على قبوله فذلكم أدعى للطاعة، وأقرب للإذعان عن رضا. ومنه نفيد إكبار الرؤساء في غيرما إطراء وأفيده من الضمير المخاطب في قوله تعالى(إليك).

ويوحي ضمير الخطاب في(إليك) باستئناس الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. كيما لاترهبه وحشة، وكيما تكتنفه رعاية الله تعالى له. وذلكم أدعى لاطمئنانه وأرجى لإيناسه. لأنه في عصمة سيده وكنف مولاه ورعاية خالقه وهداه. ومنه إستفاضة حفظه ب(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[المائدة:67]. وهي منة ربانية لزمته لزوم الجندي سلاحه؛ ليهبه شجاعة وإقداما.

 ومنه كانت انطلاقة النبوة نحو الهداية في انسيابية نهر جار لتعريف الناس بربهم الحق بأجمل ما يكون البيان، وأشمل ما يكون البلاغ. لأنه في حفظ مولاه ومحبته عنه ورضاه. فأكسبه ذلك تفانيا في دعوته، وإخلاصا في أدائها، ومحبة في نشرها. ونفيد رفع معنويات القائد للعطاء بلا كلل، وللجهاد بلا ملل.

 وتخصيص المسؤول بالخطاب علاوة على رفع قيمته ودفع عزيمته أوعى للمساءلة بعد الإيناس. إذ؛ لك كان الخطاب وعليك يكون البلاغ ومنه كان علينا الحساب وأفيده كذلكم من(وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)[الرعد:40]. وتلقيه بذلكم حنو موجب لرضاه، مانع من سخطه، داع لدأبه، ومؤذن لبذله، وموجب لإبداعه وعطائه.

 ومنه تكون داعية الطاعة متوافرة، وآلة محبته في نفوس تابعيه متواترةن ذلك لأن توقيره من الله تعالى، وإعزازه داع قوي لتوقير قومه، وصدق الإيمان به، فتثمر إيمانا بمولاه وولاية لربه.

على أنها منحة منه تعالى لعبده لما كان بدينه قائما، وبمنهجه واعيا. لأنه تعالى قال(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود من الآية:88].