لطالما كان هذا السواد القاتم مرتبط بكره دفين لم يستطع يوما مقاومته، فتارة يكون مصدر رعب من مجهول مختبئ و محتمي في هذا السواد، و تارة أخرى يعتبره مصدرا اغتصاب لجميل خلق الله و بديع صنعه، و لا عجب في ذلك ؛ فهو المحب للحياة بطبعه ، عاشق ابتهاج الورد و هدوء البحر و اشراق الشمس ، لم يجول يوما في خاطره انه قد يجتمع كل هذا مع ذلك السواد القاتم الذي قضيَ عمره في عداء معه، ليصبح و دون إنذار اكتر ما تحب عينيه رؤيته، و المسؤول عن ذلك كله هي روح مجهولة اختبات من أعين الجميع خلف رداء اسود فلم تسمح لأحد أن يرمق من جسدها سوى عينيها ، و هو ماكان كفيلا ليذيب قلب ذلك الهائم في عينين امتزج فيهما لون العسل و حلاوته مع أشعة الشمس الذهبية حين التقائها بحبات الرمال، فبعثت في نفس متاملها عشقا لعيون عسلية خبأت أسرارها خلف امواج بحر هائج كامن في تلك العيون ؛ فلم تكتفي بالحصن المنيع ضد من يرمقها وحسب ، بل و جعلت من نظرات عيونها كذلك وحشا كاسرا لمن يفكر في اقتحام حياتها أو حتى التقدم بخطوة واحدة منها ، و لكن هذا البحر لم يتمكن يوما من ابتلاع ملاحة عينيها العسليتين رغم أمواجه العاتية ، و حين تقابلت تلك العيون بأعين عاشقها؛ لم تقوى امواج البحر على ستر ما تخفيه من اسرار فباحت بكل ما تخفيه و تركت العيون تتحدث معا بلغة لا يفهمها سوى العيون ، لغة هي أشبه بصوت فيروز و بالحان عبد الوهاب و بالعود الشرقي و بطعم القهوة ، أنها لغة الهوى التي يصعب أن توصف بكلمات الشفاه ، فالعيون فقط هي من تجيدها ، هذا العضو الضعيف الذي يغلبه القلب على أمره و يلجأ إليه إذا ماوجد مقاومة من المرء لشفتيه، فإن كان المرء يتمكن من كتم مايريد أن ينطق به لسانه فكيف له أن يتحكم بما تتحدث به عينيه ، و منذ اللقاء الأول لعينيها التقا قلبيهما فاتخذا من أرواح بعضهما البعض مسكنا و مأوى و أمانا ، دون اكتراث منه لما قد يستر نقابها من ملامح ، و هي التي رغبت عن كل من دق أبوابها قصدا لجسد عفيف يتم به نصف دينه و يعفه عن الحرام ، او لامرأة تجيد الأعمال المنزلية يعتقلها في منزله، ظنا منه أن روحها مكبلة خلف قضبان تلك الخيمة السوداء ، اما هو ، فقد غض بصره عن تلك الخيمة و لم ير الا سحر عينيها و قلب يدق باب قلبه و يضخ دمها المتصل بدمه منذ اتصال اعينهما ، لم يكترث للسواد الملقى في الدرك الاسفل من نار كرهه الذي بات للَّيلة الاولى بنار عشقه منذ رؤيته يغشى روحها الآسرة ، فقد اُسرت روحه بتلك الروح المستترة داخل الجسد المأسور بداخل قضبان السجن الاسود ، لم يسألها عن دوافعها و لا عن قناعاتها بل عزم على أن يخوض معركته في صمت ، فإن انتصر و تمكن من تحريرها فهو خير ، و إن لم يفعل فهواه لها بحد ذاته هو أعظم انتصار .