محاولة للهرب ؛ الهرب من عقول متحجرة و مجتمع ظالم ، و من ثورتها ذات الطريق الواحد بلا عودة و التي مازادتها الا أذى ، أذى اعتادت عليه بعد بضعة سنين ؛ فلم تعد تستعجب أن أحلامها الصغيرة في اختيار ثنايا طريقها ماهي الا أوهاما صعبة المنال ، اعتيادها على ماواجهته وصل بها إلى الكلل ، و ثورتها ما آلت الا إلى انهاك روحها ، ركضت نحو مأواها الوحيد ، نحو وسادتها الناعمة ، هاهي تخوض معركتها الأخرى ، أغمضت عينيها آملة ان تشرق شمسها ويعود دفؤها و مأمنها ، ولكن لا جدوى من ذلك ، فإن كانت جراح أحلامها التي شوهها مجتمعها قد التئمت ؛ فكيف لحروق قلبها الذي شوهته شمسها أن تتعافى ؟ شمسها التي كانت دفءً لها تركتها وحيدة باردة بعد أن تركت حروقها على قلبها تذكارا يزورها كلما استنجدت بوسادتها الصغيرة ، فقديما كان التقاء رأسها بوسادتها و التقاء جفنيها معا بداية لاحلام وردية يمتزج فيها واقعها بخيالها - و هو ليس عن الواقع ببعيد ، و الان و قد تحولت أحلامها الا كوابيس ؛ صارت غفوتها ميتة صغيرة تتمناها كل ساعة و كل ثانية لتسكن إليها ، فقد غاب عنها ملجؤها و مامنها و فارس تلك الأحلام الوردية ، تركها وراء ظهره و هي في امس حاجتها لان يخطفها على حصانه من ارض معركتها و لو لدقائق معدودة تعيد إليها القوة و الحياة ، ذهب و ترك القوة في قلبها تتبدل هواناً و خذلاناً ، اياما عديدة قضتها و تالمها و حسرتها تتصاعدان يوما تلو الآخر ، و لكن رغم الالم لم تتمكن يوما واحدا من كبح اشواقها و حنينها و هو مازادها حرقةً و ايلاماً ، فكم من ليالٍ سهرتها اذنيها شوقا لصوته ينطق اسمها ، ذلك الاسم الذي لم تحبه يوما منذ وُلدت الى أن سمعته من شفتيه للمرة الأولى ، اناملها الصغيرة الباردة التي فشلت قفازاتها في تدفئتها اشتاقت لكفيه ؛ فقد كان دفؤهما لا يكفي لتدفئة اناملها و حسب ، بل و روحها البريئة كذلك التي كانت تحيا بلمسته ، حتى شعرها الاسود الكثيف الأملس فقدَ حياته و أمسى باهتا كئيبا منذ أن فقد مداعبة أنامله ، دموعها المنسكبة كالماء الجاري على وجنتيها الشاحبتين ليست هي نفس الدموع التي كانت ترفرف من عينيها بهجة خلال لقائهما معا و اثناء احاديثهما المطولة ، ملامحها لم تبق على حالها و عمرها تضاعف عدة أضعاف منذ فارقها ، حتى الشتاء بات أكثر برودة من سابقيه ، نزيف كحلها الاسود لم يتوقف ، تماما كزخات المطر التي شهدت لقاؤهما الاول و الوداع الاخير ، ذكريات مزدحمة أثقلت رأسها ، جميلة في ظاهرها و مبهجة ؛ و لكن مجرد كلمة "ذكريات" تحمل في طياتها اسواطا قوية تمزق احشاءها .

عزف البلبل لحنه الحزين على نافذة تلك التي انساها حنينها طعم النوم ، معلنا عن بدء صباح لا يحمل من مظهره سوى أشعة شمس باردة برودة حارقة ، اما نورها فقد توارى خلف الغيوم .