لم ادرك أن هنالك ابشع من السجون التي زرت أحدها مرة و رايتها على التلفاز او سمعت عنها ممن سكنوها مرات عديدة ، ظالم و مظلوم معاً بين نفس الجدران ، جمعهم اللون الابيض في ثيابهم و فرقهم ما يخفونه في صدورهم و أفعالهم ، يوصد زنانتهم سجان اخرج من جوفه قلبه و تخلى عن عقله على بوابة السجن ؛ لا يرى إلا حفنات النقود و علب السجائر التي يدفعها إليه المقتدرين نظير معاملة خاصة ، و ما أن ينهي عمله حتى يعود إلى حيث يكمن منزله ، فهو يقطن داخل السجن الأكبر ، قد تعجب من حال ساكنيه في بادئ الأمر ، و لكن حين تتأمل في حالهم قد تختلق لهم الأعذار دون وجه حق .

هنالك يقطن المواطنون الأصليون للزنازين حيث يقدسون الحديد و يعبدون القضبان ، لا مسجون يرغب في نيل حريته ، و عوضا عن السعي في تلبية رغبته المكنونة للحرية و هدم القضبان المحيطة به ؛ يدخر مجهوده لتشييد قضبان جديدة حول الغير كاصنام يعبدها و يجبر غيره على عبادتها ، فهذا ماوجدوا عليه اباءهم و أجدادهم .

مذكور في كتب تراثهم أن رجل من ساكني الزنازين ارتكب جريمة شنيعة ؛ كسر الأصنام و هدم القضبان و فك اساور الحديد ، حينها قامت عليه الحرب ،حرب العفة و الشرف و الاخلاق على العهر و الدناءة و الفاحشة ، حرب الايمان على الكفر و الرقي على الانحطاط ، هبوا جميعا حفاظا على أمن و سلامة الزنزانة ضد ارهاب المتمرد ، فهذه هي الحرية لدى مواطني الزنازين ، فكل مايحمل فكره الحر كفرا ، و كل ماتهوى روحه الحرة عهرا و انحطاطا ، و التحرر لديهم إرهابا .

دفنوا حريتهم حية تحت التراب من قديم الازل ، و لكن حتى التراب لا يقوى على قتل تلك الفطرة التي وهبها الله لخلقه ، فالعبادة قد تكون ظاهرية ليست منبعثة عن إيمان داخلي ، و كذلك هو حال عباد القضبان ؛ يسجدون لها و يقدسونها رغم كفرهم الباطني بها ، قد يعجب الاحرار من حالهم ، فإذا امتنع الجميع عن تشييد القضبان و ادخروا جهدهم لهدمها لما بقي سجين واحد بالداخل و تحولت الزنازين لساحات واسعة ممتدة يبرحون فيها و ينعمون بالحرية ، و لكن الحر يتحمل مسؤولية عظيمة ، و المسجون لا مسؤولية عليه ، لذا فسكان الزنازين قد بلغ عشقهم لكونهم سجناء و غرامهم في مزاولة مهنتهم كسجانين ما يفوق فطرتهم الحرة ، فآثروا العبودية على الحرية .

يوما بعد الآخر ، و جيل تلو الجيل ، تزيد القضبان و تزيد ، و يعلو سور السجن اكثر و اكثر ، فلا تعجب كثيرا لحالهم ، فربما انت لست عنهم ببعيد .