توقّف عن النظرِ للآخرين من منطلق نظرتك المتدنيّة لنفسك وتقييمكَ الخاطئِ لها ولقدراتِها، واجعلْ نظرتك للناس منفصلة عن إدراكك لذاتك وشعورك بنقائصها وطاقاتِها المحدودةِ المتدنّية التي اقتنعتَ بها ورضيتَ بها وسلّمت.. ولتكن على علمٍ ويقين بأنّ للناس نقائص تماما مثلما لديك، وأنّ لديهم جهات للإشراق وللسطوع كما لديك أنتَ أيضًا في جهاتٍ غابت عنك تماما لالتهائك بتتبّع نقاط كمال الغير، ومقارنتها مع نقاط نقصكَ وهبوطِك، مع نسيان النظر إلى جهات إشراقك والسطوع..
إنّ أكبر ثغرةٍ من شأنها أن تضاعف نقصك وتنمّيه تكمنُ في مقارنتك لنفسك مع الناس، ومحاولة إيجاد نقائص عندهم لتشبع عقدةَ النقص التي فيك، وتستمدَّ عبرَها كمالك الوهميِّ الزائف.. الكمال غير موجود حتما في دنيا البشر، ولو أنك مطالب بالسعيِ لمتابعتِه وملامسة خطوطه ما استطعتَ لذاك سبيلا.. فلا تتعب نفسك بتتبّع خيوطِ سطوعِ الغير والانبهارِ بإشراقهم وما يهيؤ لك من مثاليّتهم وكمالهم، واعلم بأن لكل إنسان جوانب من النقص لا يملؤها سوى تركيزه على نقطة الكمال، مع علمه بعدم قدرته على بلوغها.. سعيك نحو الكمال ومحاولتك الدائبة للوصول إلى أفضل النتائج على الإطلاق يجنّبك اليأس والغضب، ويخلصك من شعورك الدائم بالنقصِ والتأخّرِ والفشل أمام تقدم الآخرين وسبقهم، ويخفّفُ وطأة الألم والضعفِ التي تصيبك حين ترى بُعد المسافات وشساعةَ الفارق.. وما أجمل قولَ القائل: " الأفضل أن تهدفَ إلى الكمال ولا تصلَ إليه، على أن تهدفَ إلى الرداءةِ وتصلَ إليها." (فرانسيس بلانش)
من جديد، المقارنة داءٌ فتّاك يؤدّي بك للإحباط عاجلًا ثم آجلًا، تذكّر ذلك جيّدًا، واعمل على ملء فراغ وقتك ما استطعت بتقليل عدد النقائص فيك وتقليصِها، وبرفع مستوى الهمّة العليا ما استطعت، والتمسّكِ بالتحسين والإتقان، والإصرار الساعي نحو متابعةِ خطوط الكمال، واضعا بالاعتبار استحالة الوصول إليه.. كن طموحا، مبدعا، ذا همة عالية، وانظر لذاتك نظرة تقدير واحترام ( حقيقيّة ) بالغة بمنأى عن المظاهر والمبالغات والإيحاءات الظاهرية بالثقة، فترديدك الفارغ لعبارات إيجابيّة توحي بالثقة وتقدير الذات، مع استمرارك بحبكِ المقارنات والتمسّكِ بجذورِ النقائص، هو دليل انخفاض تقديرك لذاتك وتدنّيه، وهبوط قيمة نفسك في عين ذاتك..
التميُّزُ والنقص كفّتان لميزانٍ يهبطُ ويعلو في حياتكَ باستمرار، والتحكّم فيه من شأنك أنت وحدك ووظيفتك، فاعمل ما استطعت على رفع كفة التميّز وإخفاض كفة النقائص، وحاذر أن تصل لوهم كمالك الذاتي الزائف عبر ملاحظة أكبر قدر من نقائص الآخرين وتتبّعها، فذاك خداع للنفس، يرضيك بنقصك وينمّيه ويمنحكَ الراحةَ النفسيّةَ المؤقّتة في جواره، ويقنّعك بالتمسّكِ به وملازمة الكسل والخمول وعدم صعود درجات السلم، فتبقى في القعر والأسفل فيما يهيّؤ لك أنّك قد بلغت الكمال بقناعتك الواهمةِ التي تستندُ إليها.. فإنّ من كمالِ النقص، أن تحاولَ إثباتَ نقصِ الآخرين، وتطالبَ بإظهارِه وترسيخِهِ وثباتِه لتفرضَ وجودَ نقصكَ وبقائه، ولتبرّر كسلكَ وقصوركَ عن العطاءِ والعمل والتحسين!
لا النقص مطلوبٌ ولا مستحَبّ، ولا الكمالُ مطلوبٌ أو بالإمكانِ بلوغه وتحصيله في الدنيا. إلاّ أنّ الكمالَ معشوقٌ وينبغي النظر إليه دومًا ومتابعتهِ إبّان تقليص النقائص وتقليلها، مع الثقة الدائمة اليقينية باستحالةِ نوالِه في دارِ العمل، والسعيِ الدائمِ الدؤوبِ لنيلهِ وبلوغهِ في دار الجزاء، عبر تعهّدهِ بالغرسِ والمتابعةِ والطموحِ وعلوّ النفسِ وإيقاد جذوع الهمّة في الدنيا، لبلوغهِ في الآخرةِ والحياةِ الدائمةِ الحقيقية، الخاليةِ من النقائصِ والشوائب. فالنقصُ منبوذٌ في الدنيا ومطالَب بالتسديد وبالعلاج وبالتحسين، وبتصويب مكامنِ الخلل وإصلاحها وتقويمها قدرَ المستطاع.. وكمال النقص أن يرضى المرء بعيوب نفسه ونقائصها وأن يتفاخرَ بها ويرضى عنها وينمّيها! جميل جدًّا أن نعترفَ بنقصِنا، لكن ليسَ لنفخر بهِ ونتباهى بصدقِ الاعتراف، بل لنحاولَ إكمالَهُ ما استطعنا. فالقانعُ بالنقصِ ناقصٌ متخاذلٌ دنيء، والمتطلّع صوب الكمال، الراغب بالمنازل الراقية والهمم العالية السامية رفيعٌ متسامٍ مضيء..
يقول ابن الجوزي: "من علامةِ كمالِ العقل علوُّ الهمّة، والراضي بالدونِ دنيء".
وقد صدقَ المتنبّي حين قال:
"ولم أرَ في عيوبِ الناس عيبًا ... كنقصِ القادرين على التمامِ"
وللهِ درُّ أبو القاسم الشابي حين أنشد:
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ ... مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ ... يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ ... وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ ... وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر
وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيـعٍ ... تَأَلَّـقَ في مُهْجَـةٍ وَانْدَثَـر
وَتَبْقَى البُـذُورُ التي حُمِّلَـتْ ... ذَخِيـرَةَ عُمْرٍ جَمِـيلٍ غَـبَر
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ اللهَ يحبُّ معالي الأمور ويكرهُ سفسافَها» (صحيح)، وقد روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنه قال: " لا تصغرنَّ همتكم؛ فإني لم أرَ أقعد عن المكرمات من صغر الهمم"، وقال ابن القيم: " فمن علت همّته، وخشعت نفسه، اتّصف بكلِّ خلقٍ جميل. ومن دنت همتّه، وطغت نفسه، اتّصف بكلِّ خلقٍ رذيل"، وقال: " لا تكونُ الروحُ الصافية إلاّ في بدنٍ معتدل، ولا الهمّة العالية إلا في نفسٍ نفيسة".
وللمفكّر الرائع مصطفى السباعي حكمةٌ بالغة يقولُ فيها: " الحياة طويلةٌ بجلائلِ الأعمال قصيرةٌ بسفاسفِها".
فلا يوجد في المجتمع الإسلاميّ ناقصٌ عاطلٌ يستمرئُ الدعةَ والبطالةَ، ويركنُ للكسلِ والدناءةِ والخمول، ويكره الطموحَ والتقدّمَ وعلوّ الهمّة والسعي نحو أعلى المراتبِ والدرجاتِ والقمم. بل الإسلام كلّه نشاطٌ وإشراقٌ وتميُّزٌ ونبوغ، وغرسُ طَموحٌ وعلوُّ همّة، وتسلّقٌ نحو القمّة، وتسابقٌ نحو السبقِ والقربِ والخيرات والفوزِ بأعلى درجاتِ الجِنان، وسعيٌ دؤوبٌ للوصولِ لأرفعِ مراتبِ الصلاحِ واليقينِ والإيمانِ والإحسان، وتزكيةٌ للنفسِ ودفعٌ بها نحو الأعالي، لجعلها لا تسكنُ أو تقنعُ أو ترضى إلاّ بخيرِ الأعمالِ والنتائجِ والجزاء، ولا تحصدُ إلاّ أطيبَ الثمار، ثمار الخيرِ والصلاحِ والرشادِ التي غرست بذورها في الدنيا بيديها فنالت جنّة الدارين، وفازت برضا الرحمن وتنعّمَت برؤية وجهه الكريم يوم القيامة، وهو أعلى وأفضلُ وأصدقُ ما يمكنُ للمؤمنِ بلوغه وتحصيلَهُ والوصول إليه من حقائقِ الكمالِ وحَصادِه.
فلتسعَ نحو خطوطِ الكمال وإن لم تقدر على الوصول، ولتهجر أرضَ النقائص والخواء، وتتعاهد نفسكَ بالسقاءِ وبالرواء، لئلّا يبغتكَ اليباسُ ويسكنكَ التآكُلِ والذبول...