سابقاً، لم يكن يلفتني مسمى الشذوذ الجنسي، وإن كنت عرفت هذا المسمى فقد كنت أظنه لا يوجد بيننا كظاهرة يُعاني منها مجتمعنا الذي نعيش فيه، ذلك يعود أولاً إلى درجة الازدواج والمثالية التي تعيشها مجتمعاتنا، وثانياً درجة الكبت والعنف التي كانت تواجه به تلك الظاهرة، وثالثاً أن الظاهرة كانت منتشرة بشكل سري، وهذا أمر طبيعي خصوصا في المجتمعات التي تدعي أنها متدينة ومحافظة إلى حد التشدد، والحقيقة أنه ينخر فيها كما لا يفعل في سواها من المجتمعات الأخرى، ذلك أن المنع والكبت هو أسرع طريقة للتفشي والانتشار، وبرأيي أن من أهم القضايا التي تعرضت للتهميش والجلد والكبت في مجتمعنا العربي خصوصا والمجتمعات الإسلامية عموماً هي "غريزة الجنس" حوربت هذه الغريزة كما ولو أنها لا تنتمي إلى الإنسان، مما ولد لدى غالبية كبيرة من الشباب نوعا من التشوه النفسي والانحراف الخلقي وهذه حتمية ومأل لكل صدام مع ما فُطر الإنسان عليه.

بين عبد الوهاب المسيري وعلي الوردي، وجدت رؤيتان مختلفتان عن الشذوذ الجنسي، الأول يرجعها في كتابة الفردوس الأرضي إلى المسلك المادي الذي تنتهجه حضارة اليوم كغاية، نحو عبادة الجسد، والثاني يُرجعها في كتابه النفس والمجتمع إلى مشاكل اجتماعية تنشأ في المجتمعات التي تنتهج احتجاب النساء عن الرجال، والجماعات التي تعيش الحرمان بعيدا عن النساء، كجماعة البحارة والمعسكرات والسجون، ويقسم على الوردي الشذوذ إلى نوعين، الأول مُكتسب وهو معلوم، والثاني طبيعي لأسباب في تكوين الفرد البيولوجي، فهو أقرب إلى الأنوثة أقرب منه إلى الذكورة، وبين الرؤيتين وجدت أن الصيرورة واحدة وإن اختلفت الدوافع والبيئات، ففي المجتمعات المحافظة والمتدينة يكون الحرمان والكبت هو طريق الشذوذ، وفي المجتمعات ذات الطابع المادي المتحضر تكون المادة هي طريق الشذوذ، ذلك أن المسيري كانت ملاحظاته من واقع مادي عاش فيه لفترة طويلة (أميركا)، بينما كانت ملاحظات الوردي من واقع المجتمع العراقي المحافظ المتدين والمتشدد، وهي عند الوردي حالة يصلح تعميمها عربيا وإسلاميا. وبرأيي أن كلاهما نظرا إلى الواقع ووصلا إلى نفس النتيجة "الشذوذ الجنسي" وإن اختلفت الدوافع الجنس كغاية في نموذجه الغربي، والجنس كعدو يجب أن يُكبت ويحارب في نموذجه العربي الإسلامي.

في مجتمعنا العربي نجد أن الشذوذ اكتساب أكثر منه طبيعة في الفرد، ذلك أن مجتمعاتنا العربية أبعد من أن يكون لديها نقص في التكوين البيولوجي، فدرجة الرفاهية لا زالت متدنية، والجو العام لا يسمح لمثل هذا الظهور، فالكثير منها لا يزال يعيش تحت وطأة الفقر والحروب والبيئة القبلية الشديدة، وإن أبدت بعض الحالات نقصا في التكوين كبعض الدول الخليجية تلك التي تنعم بمستوى عال من رفاهية في العيش، والشذوذ المكتسب في مجتمعاتنا تجد أنه بشكل عام ينشط في بيئتين، الأولى في الأماكن التي ينعزل فيها الكبار مع الصغار لفترات طويلة، أو الكبار مع بعضهم، كالمخيمات الصيفية والمدارس الدينية ومدارس القرى النائية التي يأتي كادرها التعليمي من خارج القرية، بالإضافة إلى الرحلات والمساكن الطلابية، وتجمعات الأفراد في بلد الغربة والمهجر، والبيئة الثانية الحيز الذي لا توجد فيه النساء أو بشكل أدق البيئة التي يُمنع على الرجال أن يشاهدوا النساء أو يختلطوا بهن في المرافق التعليمية ومرافق العمل، وماهية المشاهدة هنا لا يقصد بها السفور، نقصد بها المشاهدة التي من خلالها يستطيع الرجل أن يشعر بالمرأة أنها ذات كيان مثله تماماً، لا أن يُعزل الطرفان عن بعضهما كما ولو أن الآخر كائن غريب يمنع الاقتراب منه. وذلك يُحلينا أولاً إلى أن الدافع في المجتمعات العربية خليط من الكبت والحرمان بمعنى آخر "اكتساب"، فالكبير يندفع إلى الشاب الصغير الذي يظن أنه أقرب في ملامحه إلى الأنوثة، وعادة ما تكون لهذا البالغ سلطة على الشاب الصغير، كأن يكون استاذه في المدرسة، أو مربيه في دار العلوم الدينية، أو مشرفا عليه بأي سلطة كانت، يظل الشاب الصغير تحت وطأة هذه الممارسة لأشهر وربما لسنين، حتى يُدمنها كلا الطرفين، وهذه الحالة تبدأ في استقطاب أشخاص أخرين كلا بما ينقصه، وهكذا يتسع نطاقها، وفي النادر والقليل ما تحصل هذه الحالات بالاغتصاب أو بدافع الحاجة في مجتمعنا، وإن حصلت فسرعان ما يعرفها الناس ذلك أنها حدثت بالقوة من الطرفين.
يرى الشاب أن المجتمع وضع بينه وبين الأنثى سدا عالياً لا يسعه تجاوزه، فيبحث عن طرق بديلة يضع فيها بعضا من هذه الغريزة المكبوتة، ولو أن المجتمع قنن هذه الغريزة بما لا يصادمها، لتعفى المجتمع من تشوهاته النفسية وانحرافاته الخلقية، ولعرف من خلال ذلك أن المرأة شيء مغاير تماما لم غرس في مخيلته عنها "على أنها لم تُخلق إلا للجنس"، بل ولخفت حدة هذه الغريزة ولشعر الفرد بنوع من الطمأنينة والاستقرار النفسي، ولكن لك أن ترى حجم القلق النفسي الذي تعيشه المجتمعات العربية جراء كبت وجلد وصدام هذه الغريزة لدى "الجنسين" على حد سوى، بل أنها تعد هاجسا مؤرقا لغالبية كبيرة من العائلات والمجتمعات في تربيتهم مع أبنائهم، فسن البلوغ لدى الشباب هو نوع من إعلان الحرب بين الطرفين، أضف إلى ذلك جملة من النصوص والمورث الديني التي ساهمت في كبت هذه الغريزة مما جعل المجتمع يقف ضد هذه الغريزة من منطلق العرف والدين معا.

مهما حاول المجتمع المتدين والمتشدد إن يكبت مثل هذه الغريزة والتي تعد أهم غريزة في الإنسان، فالمجتمع في كل الأحوال سيجد الطريق لإشباعها ولكن بطرق غير شرعية وسليمة، وهذا بدوره لا يجعل المجتمع يعاني من ظاهرة واحدة بل يجر ذلك الأمر معه جملة من الظواهر والتي بدورها تجر ظواهر أخرى وهكذا حتى يغرق المجتمع في الانحطاط والأمراض النفسية والانحرافات الخلقية والازدواج والنفاق، ثم في نهاية الأمر يكون ضرره بشكل أكبر على الأنثى، ففي نهاية المطاف الحجب عليها والإهانة لها وسلب حقوقها تحت ذريعة أنها كائن يجب أن لا يراه الآخرين وأن الآخرين يكنون له العداء والفتك في أبسط فرصة يظهر فيها.

حقيقة المقال، إذا كان الجنس يراه المسيري غاية في الحضارة المادية، فالجنس تراه المجتمعات العربية كعدو يجب قتله، وفي كلاهما غلو وشد يؤدي إلى ما ذكرناه سابقاً.
يتبع
أ.ع