في تلك اللحظة بالذات، كان يتمنى لو أنه يسعل بقوة ثم يستفرغ كل مافي بطنه. لقد كان يوما سيئا، ليس من الناحية الصحية فحسب، بل من الناحية النفسية كذلك. في يوم كهذا، كانوا يعتمدون عليه، أهله أقصد، والده بالذات كان يعوّل عليه، رغم أنه ليس أكبر الأبناء ولكنه فيما يبدو تم الاصطلاح على أنه الأذكى والأجدر بالمهام الكبيرة، ومهام السفر كبيرة كما يبدو، لذا هو من يتكفل بها. اصدار الجوازات والفيز اللازمة، متابعة مواعيد السفارات وتجهيز الاوراق الللازمة للتابعين والاطفال، ترتيب حجوزات السكن والميترو وتذاكر الطيران، كلها مسؤوليات تكفل بها رغم أنه ليس مشاركا في الرحلة، إنه اتفاق ضمني أنه يقوم بالمهام الصعبة للأسرة والتي تحتاج ذكاء خاصا، وليس هنالك مقابلٌ لذلك، سوى شعوره بأنه رجل المهمات الصعبة، والدته تقول دائما أن كلّ أمر غامض سيحله هو.

في ذلك اليوم، لم تسر الأمور كما كان مخططا لها، موعد السفارة تم رفضه لوجود خطأ في ادخال البيانات، الخطة بكاملها قد تتأخر الآن، ماذا عن الحجوزات والمبالغ المدفوعة! لقد شعر بتهديد ما لمكانته، لم يواجه أهله حتى الآن، ولكنه كان مهموما بنظرات الشك التي قد تعلو وجوههم، ليس أقسى على المرء من أن يتزعزع إيمان المؤمنين به. في ذلك اليوم كان يشكو من حمىً في جسده ووجعا في بطنه، لقد كان يوما عصيبا، وهو يعرف أنه يستطيع إدارة الخطة وتصحيح موعد السفارة، ولكنه لن يحتمل أسئلتهم عن أسباب الغاء الموعد وماذا سيحدث وكيف ولماذا، والأقسى من ذلك.. ماذا لو عرضوا عليه المساعدة؟ يالها من طعنة مؤلمة، ماذا لو قال والده (خل اخوك يساعدك)؟ ماذا لو تبرع الأخ الأكبر بالمساعدة! ماذا لو ظهر كما لو أنه المنقذ للموقف، لا لا هذا أمر لايمكن أن تحتمله نفسه، ليس وهو موجوع البطن محموم. أخوه بالكاد يستطيع تدبير أموره الزوجية، إنهم يعرفون، كما يعرف هو، كما تعرف زوجة أخيه، أنه  هو الأكثر ذكاء وأن أخوه ليس إلا رجلا طيبا يقرأ عليهم مواعظا وقصصا غريبة أحيانا في أمسياتهم، هذا الأخ هو الذي أخبرهم قبل بضع سنوات بأنه بحلول عام 2020 ستتطور التكنلوجيا بحيث ستكون كل السيارات مزودة بأجهزة استشعار تمنع الحوادث وتخفف السرعة اجباريا في حالات الخطر، أجهزة ذكية تتبادل المعلومات مع السيارات الاخرى في الطريق لتمنع وقوع الخطر، لقد كان يكرر هذه القصة في واحدة من تلك الأمسيات العائلية، وكان في كل مرة يزيد في التفاصيل والخيال ليجذب الأسماع، إنه رجل طيب القلب يحب المواعظ والأخبار الغريبة، وهو الآن قد يتدخل لإنقاذ الموقف، قد يعرض –بشهامة طيبة- أن يقدم المساعدة، قد يقترح تقنية ما تم اكتشافها حديثا تساعد في حل الموقف، إنه رجل الأخبار التكنولوجية، ماذا لو اقترح ذلك؟ ماذا لو فتح جواله وشرع في تحميل تطبيق ما وبدأ في شرحه لباقي العائلة، ماذا لو زعم أن لكل سفارة تطبيقا خاصا؟ لا هذا سيكون فوق احتماله. لقد ازداد بطنه وجعا بمجرد أن تخيل المشهد.

إنه محموم وموجوع، يتمنى لو يمر هذا اليوم بسلام ومن دون اجتماعات عائلية ونقاشات، إنه متأكد من قدرته على إصلاح الموقف ولكنه لسبب ما لا يستطيع احتمال هذا اليوم، وهو لا يرغب أن يضيف لقصة الغاء موعد السفارة قصة بطنه الموجوع والحمى التي تجهد قواه، لو قال هذا لعدّوه ضعفا منه، لو قال هذا لاعتبروه اعتذارا، لو قاله فإنه يصدر حكما من نفسه بإعفاء نفسه. ولكنه لن يفعل، لو فعل سيهتمون به وسيطلبون منه الراحة وربما قامت والدته بتحضير مشروب مخلوط يساعده على الشفاء، بالتأكيد سينسون موضوع السفر ويهتمون به ولكنه لا يريد هذا، إن الشعور بالشفقة قد يكون لذيذا ودافئا إلا أنه يزعزع الكيانات المنتصبة، هذا شيء يعرفه على وجه اليقين.

في تلك اللحظة بالذات، عند دخوله عتبة المنزل، وقبل لقاء الأهل، كان يتمنى لو سعل بصوت عال ثم استفرغ كل مافي جوفه، كان يتمنى لو صادف أن بعض اطفال العائلة يكونون بالخارج ليشاهدوه، ثم يهرعون لإخبار الكبار عن سعاله فيحضرون لمساعدته، سيتمنى أن يعرفوا أنه متعب جدا، جدا جدا، وأنه محموم، ولكنه لن يخبرهم، يتمنى لو غضبوا منه لأنه يخفي عنهم مرضه، سيكون هذا مصدرا لبهجته، سيحظى بالعناية والشفقة ولكنه ايضا سيحافظ على كيانه المنتصب، إنها الطريقة الوحيدة لكسب الاثنين معا، سيتخيل أنه يؤنب الأطفال الذي أشاعوا الخبر، وسيقول أنه (أمر بسيط) وأنه لا يستدعي كل هذا، سيسره كثيرا أن يخفي الألم ولكنهم يكتشفونه، سيسره هذا كثيرا، سيخبرهم بقصة الموعد الملغي وهو يقاوم تعبه ويحاول أن يبدو نشيطا، سيعجبون به وبقوته، سيتنفس ببطئ وهو يحكي خبر الموعد الفاشل، لن يتأثروا كثيرا بالموعد وسيعتقدون أنه استطاع فعل كل هذا رغم مرضه فكيف سيفعل في حال صحته، لن يشككوا بقدراته ولن يزيدوا في أسئلته، سيخبرهم بكل شجاعة (ربما وأمه تحاول أن تضع قماش رطبا على جبينه لتخفيف الحمى) أنه سيحجز موعدا آخرا وأنه يعرف شخصا يعرف شخصا يعرف أحد الموظفين في السفارة الذين قد يساعدون في حجز موعد مبكر، سيقول هذا وهم يحاولون العناية به وهو يستنكر عنايتهم ويتلذذ بها، سيبدو كما لو أنه لا يطلب العناية وإنما يهتم فقط لإنجاز الأمور، حيث اعتادوا منه أن ينجر الأمور الكبيرة بمهارة وهمّة.