بسم الله الرحمن الرحيم
اغرسوا فسائِلَكُم ...
عـدم الـثبات ، التـناقـض و الصراع ، خـصائـص أساســيـة – و ربما جوهرية – من خصائص الوجود ؛ السماوات بما فيها من كواكب و شموس و أقمار ، و الأرض بما فيها من جبال و سهول و بحار ، الجماد و النبات و الانسان ، كل ذلك في تبدلٍ مُـسـتـمـر ، كل شيءٍ يِـعـتَـرِيه الـتـغـيـيـر .
ها هو الصيفُ يمضي بحرَّه و غُـبارِه ، و ها هو الخريفُ قد هلَّ برياحهِ و امطارِه ، ها هي الأشجارُ الخضراء تصفرُّ أوراقُـهـا ، و تجفُّ أغصانُها ، ها هي الريحُ تجلدُها حتى تـعـرِّيها .
الكون يتمدد باستمرار ، حقيقة علمية حديثة أشار اليها القرآن الكريم منذ قرون :
( و السماء بنينها بأيد و انا لموسعون)
و الأرض مرت بأطوارٍ كثيرةٍ حتى استـقرت على ما هي عليه اليوم ، هل قـلتُ استـقَرَت ؟ لقد زللتُ اذا ً ، ما قصدته هو : أنها استـقرت على الوضعية التي جعلتها قابلة لاستقرار بني الـبـشـر ، و الا فهي أيضا في تغير مُـسْـتَـمِر .
و الانسان خلقه الله على مراحل ، و يمر خلال حياته في مراحل :
( يا أيها الناسُ ان كُـنـتُـم في ريبٍ من البَعْـثِ فانَّا خـلـقـناكُم من ترابٍ ، ثُم من نُـطْـفَةٍ ، ثُـم من عَـلَـقَـةٍ ، ثم من مُضْغَةٍ مُخَـلَّـقَةٍ و غَـيْـرِ مُخَــلَّـقَةٍ ، لـنُـبَـيِّـنَ لكُم و نُـقِـرُّ فـي الارحـام ما نـشـاء الى أجلٍ مُـسَـمَّىً ، ثم نُخْرِجُكُم طفلاً ، ثم لـتـبلـغوا أشُـدَّكُم ، و منكم من يُتَوَفـَّـى ، و منكم من يُرَدُّ الى أرْذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ... ) .
هذا عن تغيرات الانسان الحـسِّـيـةِ الجـسـديةِ الغريبة العجيبة ، أما تغيراته الـمعـنـوية الأخلاقية فهي - ربما - لا تقل غرابة عنها ، ان لم تكن أغرب منها : نحبُ شخصاً ما فنلقِي أنـفُـسَـنا في التهلكةِ من أجله ، ثم نكره من أحببنا حتى نُخَطِّطَ لـقـتـله ، نُـصلي من الليل حتى تَـتَـفَـطَّر الأقدام ، و نصومُ النهارَ حتى تـجـفَ العـروق ، ثم نَـفْـتـر عن صلاة الظهر و صيام رمضان ، نلعن "فرويد" و "ماركس" و "نـيـتـشة" ثم نهلل للتحليل النفسي ، و نروج للمادية الجدلية ، و نغني مع نيتشة للإنسان الخارق الملحد ...
و سبحان مغير الاحوال ! ... لا ثباتَ و لا استـقـرار ، لكن تـغـيـرٌ و صراعٌ باستمرار ؛ هذا ديدنُ الحياة . هل هي العبثية و الفوضوية اذن هي التي تحكم الكون ؟ حاشا و كلا ، بل ان (كل شيء عنده بمقدار)
مرحى اذن ، مرحى للمؤمن بالله فهو كبحار تائه اكتشف احداثيات ثابتة في بحر موار متقلب متغير ، مرحى له فهو كانسان خائف هائم على وجه ، وجد مأوىً و ملجأً و ملاذاً و مهرباً من جحيم الحياة المـسـتـعـر ...
لكن مهلا ، لا تظنوا - أيها السادة - أنني أدعوكم الى الانعزال عن الحياة ، و الـتَّـحَـنُّـث في الجبال ، و الهرب الى الكهوف ، أعوذ بالله ؛ فهذا ليس نهجي ؛ على العكس تماما ؛ أنا مؤمن بأن الله استخلفنا في الأرض لنعمرها ، لنملأها رحمة و عدلا ، و القرآن طافحٌ بالدعوة الى العمل الصالح ، و الرسول – عليه السلام – يدعونا الى غرس نبتة في الأرض حتى لو قامت القيامة علينا ! :
( اذا قامت الساعة و في يد أحدكم فَـسِـيـلَـةٍ فليغرُسها)
نعم لذلك خـلـقـنا الله أيها السادة ؛ للعمار لا للخراب ، فاذا ما عم الخراب ، و انتشر البلاء فالبلاء الى زوال ، و الخراب الى عمار ... الم أقل لكم :
انه لا ثبات و لا استقرار لأي شيء في هذا الوجود ؟ لذلك يبقى الأمل ؛ يبقى الأمل ما دامت صفة الحياة الجوهرية هي التغير و التبدل ؛ فالأغصان التي جفت و يبست سـتـلـيـن ، و الأوراق التي اصفرت و سقطت سـتـنـمو و تخضر ، و هذه الأيام العصـيـبة التي نـحياها سـتـمر - بعون الله - و نـتـذكرها بأنها الرَّحم الذي ولِدَ منه الواقع العربي الجديد ! .
لقد عشنا منذ قرون في ظلام دامس ، و فجأة اضيئت الشموع من غرب العالم العربي و حتى شرقه ، نعم لقد أُطْـفِـأَت تلك الشموع ، و أضاءت السماء و الأرض القنابل و المتفجرات ، نعم لقد شهدت السنواتُ العجافُ الأخيرةُ تـقـلباتٍ و صراعاتٍ قد تنوءُ القرونُ عن حملها ، لكن الامل موجود ، فالشموع لم تنطفأ تماماً بعد ، ان نيرانا صغيرة تشتعل هنا و هناك في صدور الشباب المتعـبـيـن ، هؤلاء الذين انـتـفـضوا بشكل عفوي متحررين من الأجندات الحزبية و المذهبية و العرقية ، هؤلاء الذين كفروا بكل المؤسسات القديمة ، الذين لم تعد تقنعهم الأفكار القديمة البالية ، هؤلاء هم الأمل ، هم الذين سيفرضون علينا اعادة التفكير بتراثنا الفكري قديمه و جديده ، هؤلاء هم الذين سـيـفـرزون قيادات جديدة ، بأجندات جديدة مصاغة محبوكة من نسيج الوطن و المواطن ، هؤلاء هم الذين سيرسمون هياكلا مؤسساتية جديدة ، تلائم مجتمعا جديدا ، هؤلاء – أيها السادة - هم الذين سيـشـقـون طريقـا مختلفا ، نحو مستقبل عربي اسلامي مختلف ... و العاقبة للصالحين المصلحين :
( قل ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين )
.............
ملاحظة : نشرت هذه الخاطرة مسبقا كملاحظة لي على الface