وقفات حول قوله تعالى(وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)[ الأعراف: ١٨١].
قال تعالى(وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)[ الأعراف: ١٨١].
المعنى:ومن الـخـلق الذين خـلقنا أمة، يعنـي جماعة يهدون، يقول: يهتدون بـالـحقّ وبِهِ يَعْدِلُونَ يقول: وبـالـحقّ يقضون وينصفون الناس.[الطبري رحمه الله تعالى].
وهذه هي الآية الواحدة والثمانون بعد المائة من سورة الأعراف.ولها سمة خاصة تميزها بما أوتيت من بيان ولها جرس يخصها بما حوت من علوم وآداب وهدايات. وذلكم رغم قصرها قياسا على غيرها من آي الذكر الحكيم.
ويتوارد على الذهن مباشرة ذلكم التفرد في الأداء بإطراء ثلة ممن خلق الله تعالى كانت وظيفتهم الأولى دعاة إليه تعالى حتى نذروا أنفسهم - وقفا لتيكم مهنة - وما أجملها - لله تعالى ربهم الرحمن. وهو سبحانه من ثم المتكفل لعباده من ذلكم صنف وهبوا حياتهم للدعوة إلى دين الله تعالى برزقهم. كيما يقوموا بأداء وظيفتهم آمنين مطمئنين. وفي حسهم أن ما يقيم للإنسان صلبه وحسب لقمن أن ينشئ رجالا صدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه. كما أنه تعالى قد كفل لكل من برأ رزقه.
وذكرهم مدحا وثناء منه تعالى تشريف لذلكم صنف من الناس به نالوا درجة من سمو لايبلغها عبد آخر مثلهم. ذلك أن دين الله تعالى يوقف ثلة من أمثال أولاء نفر يهدون غيرهم إلى ربهم الله تعالى الحق. ومنه أفيد أنهم مهتدون. وإلا ففاقد الشيئ لايعطيه. فدلت الآية بمفهومها على أن القائم على دعوة الناس إلى الخير لزم تلبسه بذلكم الخير كيما يكون مهتديا هو في نفسه وكيما يقبل منه قوله. ذلك أنه واضع نصب عينيه قول ربه الرحمن سبحانه(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصف:2].وهو كذلكم يغمره وجل وتملؤه خشية أن يقع تحت طائلة من كان فيهم قد نزل قوله تعالى(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[البقرة:44].
وذكر ذلكم النوع الفريد من القوم منزلته عليا ودرجته رفيعة. ذلك لأنه تعالى قال(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ([التوبة:122].فلزم تخصيص ثلة يتعلمون ليعلموا أمتهم الخير. ومنه أفيد فضيلة العلم النافع. وأفيد تقدم علوم الشرع على ما سواها من علوم. ذلك لأن فيها النجاة وبها السلامة. ألم تر إلى سببين يدخل بهما النار من تلبس بهما أحدهما أو كليهما؟. كما روى البخاري رحمه الله تعالى من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً ، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟ قَالَ : لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى ، وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ ، قَالَ : سَمِعْتُ مُجَاهِدًا مِثْلَهُ : يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ) [البخاري:214].
ولئن كانت الأمة الهادية بالحق وبه تعدل هم الذين آمنوا من أهل الكتاب، أوالعلماء والدعاة، أو المهاجرين والأنصار والتابعين. فإن ذلك كله يفيدنا في إنعامه تعالى ألا يخلون زمان من قوم هذه أوصافهم، ومن ثلة تلك نعوتهم (يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).!
ومنه ما رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها: "هذه لكم" وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها، ( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ ) [الأعراف: 159].
ولأنه تعالى رحيم بعباده فقد قيض في كل زمان ثلة من أهل الدين والعلم ليعلموا الناس أمر دينهم ليشيع الهدى ويعم الصلاح. وتلك أيضا من دلالات الآية الكريمة.
ومنه أيضا مارواه البخاري (7311) ومسلم (156) عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ).
بيد أن دورانا في فلك الآية يرينا مرة أخرى فضيلة قوم لفضل ما إليه يدعون، وماهم به قد علت منازلهم وتسامت درجاتهم .ومنه أفيد فضلا لذويه من فضيلة ما يتلبسون به من حق وما يتزينون به من هدى.
ومرة أخرى هم يهدون بالحق لأنهم به مهتدون.
وفيه فضيلة الأخذ بالأسباب. فلايترك الإنسان نفسه بلاعلم يصاحبه فالعلم زينة متعلميه، وفخر من تسربل به ودعا إليه.
غير أن ذكر الحق معرفا دل على أنه واحد لا متعدد. كما أنه دال على كونه دين الله تعالى. وهو عبادة الله تعالى وحده بلاشريك وخلع الأنداد كلها مما سواه. وهو دال بمفهوم المخالفة أن ما سواه باطل لايلحقه تصحيح مهما حاول ذووه لذلك من سبيل أو لبسوا من طريق. وليس يكون الحق حقا إلا عندما يخلص من كل شائبة، وليس يكون هدى إلا عندما يصفى من كل دخيلة عليه مما يلبسه هذا أو ذاك من البشر.
بيد أن وقفة أخرى لجديرة.! ذلك أن الهدى بالحق يعنى الهدي به كله.! بحيث لاتبقى منه بقية تخفى، أو يطمس بعض من أصوله أو أن يلبس ببعض من فروعه. ليبقى الحق زاهيا ناصعا نصاعة ثوب أبيض لم تلكه أدناس من تراب، أو فساد من أدران.
وهنا يكون الحق. ومن طبعه أن يُهدي به نفسه لا بغيره أبدا. ذلك لأنه ليحمل بين طبقاته الهدى. وكفى بلفظ القرآن اختيارا أنهم يهدون.! فآلة الهدى هو الهدى نفسه.! وهو تعبير قرآني فريد فيه نلمح الهدى هاديا وفيه ننظر إلى الهدى كله لابعضه أو جزئه. وتلك قيمة جميلة من قيم الإسلام الحنيف. ذلك أن الثوب لايكون بهيا إلا إذا تكاملت أجزاؤه كلها كيما يبدو صاحبه بهيا في زينته.!
وكونهم يهدون بصيغة المضارع دل على استمرارتلبسهم بالهدى من جانب فلا يقعدون ولايفترون. كما دل على ثبوت قيامهم به أبدا فلا ثمة هنيهة عنه ينخلعون.! ذلك لأن معاول الهدم كثيرة لدى إبليس فلزم مجابهتها بقوم يهدون بالحق أبدا ولايفترون.!
ومجيئ الفعل المضارع(يهدون) بضمير الجمع أثبت ما سلفت به الإشارة أن طائفة – جمعا - وجب قيامها به وعليه وإليه.! كيما يصطبغ الكون بالهدى فيسمو إلى القمة السامقة لايعرفه هوى ولايلحقه بوار بإذن الله تعالى.!
غير أن لفظ القرآن الحكيم وإن دل على لزوم كون دعاة الحق أن يكونوا جمعا. لأنه إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية وتلك مدحة. إلا أنه لايلزم كونهم متعارفين أو متعايشين. وإن حدث فتلك ميزة وقيمة مضافة. إلا أنه أيضا يجب ألا يغيب عن البال أن الله تعالى قال(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِن الْمُشْرِكِينَ)[النحل:120].فدل على أن فردا واحدا يمكن أن يكون أمة قائما بالحق وبه يعدل. وفيه قيمة العبد حيثما وضع نفسه موضعها داعيا إلى الله تعالى. ذلك لأنه(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين)[فصلت:َ33].
ووقفة أخرى لازمة. ذلك أنه كيما تكون منظومة الدعوة حقا فلزم كونها قائمة بالحق وهو الإسلام الذي هو عبادته تعالى وحده بلا شريك مع إسلاس القياد له تعالى وحده بحيث يكون الله تعالى هو الحكم وهو المألوه وحده تسليما ومحبة وقبولا وانقيادا. هذا كله فضلا عن أن يحكم بالحق عدلا وإنصافا. وهنا يمكن القول إن قوما يهدون بالحق وبه يعدلون هم المهتدون حقا. وأما سواهم فاعتذار الآية عنهم أوضح من شمس في ضحاها أو من نهار إذا جلاها والله المستعان.
وشامة أهل الحق إنصاف الناس إذا ظُلِموا والوقوف بجانبهم إذا أُجِيرعليهم. فسندهم الحق وأهله معه. ذلك لأنهم قوم ربانيون لايقبلون ضيما ولا يحيفون. بل ينصرون ويؤازرون ويسعى بذمتهم أدناهم. وهم جميع يد على من سواهم. ومنه كان مدحهم في القرآن والثناء عليهم في الكتاب المجيد. كيما يعرف الخلف أن لهم سلفا كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون.