رسالة الإسلام في الحكم


منذ حقبة الاستعمار وقضية نظام الحكم في الاسلام وما يستتبعه من نظرة الدين الإسلامي الى أنظمة الحكم المختلفة وبالأخص النظام الديمقراطي وموقفه منها ونظرته الى العقائد الأخرى وكيفية التعامل معها وأسئلة حول العقيدة السليمة التي يجب أن تتبع تشغل القكر في مجتمعاتنا العربية التي يشكل المسلمون أغلبيتها العظمى.

امتلأت ألاف الصفحات حول هذه المواضيع من كتاب دينين ومن كتاب علمانين, بعضهم أسقط مفاهيما معاصرة على نصوص القران والبعض الاخر تبنى شروحات وتفسيرات لا أجدها مقنعة وفي رأي كلاهما اتبع هواه ومن جهة ثانية طرحت الموضوع كتابات توخت المنهج العلمي وتجنبت الاسقاطات التاريخية، من هؤلاء من نفى عن الاسلام أي صفة سياسية واعتبره دينا علمانيا والبعض الاخر أقحمه في صلب السياسة واعتبره دينا ودولة, ومن الباحثين من تجاوز النقيضين وخرج بمركب ثالث يجمع بينهما وذلك بمناهج وغايات ومتعددة وخلصوا الى نتائج متنوعة أثرت الموضوع ووسعت الأفاق.

من جهتي لم أقتنع بأن الاسلام كان بعيدا عن مجال السياسة.  هو دين ومعتقد يربط الفرد بخالقه وينظم العلاقات الاجتماعية  ورسالته امتدت بالقوة الى عالم السياسة ولكن بأي معنى وما هي الدلالة الحقيقية لرسالته وهل تتعارض فعلا مع نظم الحكم الحديثة ثم ما هي دلالة الجهاد في سبيل الله.

وصلت الى قناعات عديدة واجابات عن أسئلة كثيرة من خلال قراءات متعددة لمفكرين عديدين أسهموا بعمق في هذا المجال لكن يبقى في النفس ذلك التوق للتكامل الذي لا يتحقق الا بالبحث الشخصي لذلك توجهت بما امتلكه من أدوات فهم ومنهجية تعلمتها من كتابات لمفكرين كبار في حقول مختلفة في مجال الانسانيات لقراءة نصوص القران التي تناولت أو اشارت الى موضوع الحكم وعمدت الى تقصي دلالات الكلمات ومقاربتها قدر الامكان للمقصود منها على الحقيقة.

لنبدأ بأيات وردت في سورة المائدة التي تعتبر من أخريات السور نزولا وبها تم تقنين العيد من أحكام الدين:

 

1.     يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ2.     سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ3.     وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ4.     إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ5.     وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ6.     وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ7.     وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ8.     وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ9.     وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ10. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ.

 

بقراءة الأيات أعلاه بحسب السياق الذي وردت فيه ووفقا لسبب النزول الذي زودتنا به المراجع التاريخية حيث روي أنهم اليهود زنت منهم امرأة. وكان الله قد حكم في التوراة في الزنا بالرجم. فنفسوا ان يرجموها, وقالوا: انطلقوا الى محمد فعسى أن يكون عنده رخصة, فأن كانت عنده رخصة فاقبلوها, فأتوه فقالو:يأبا القاسم ان امرأة منا زنت, عما تقول فيها؟ فقال لهم النبي: كيف حكم الله في التوراة في الزاني؟ فقالوا دعنا من التوراة ولكن ما عندك في ذلك, فقال: أتوني بأعلمكم بالتوراة التي انزلت على موسى فقال لهم : بالذي نجاكم من ال فرعون وبالذي فلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق ال فرعون, الا أخبرتموني ما حكم الله في التوراة في الزاني؟ قالوا: حكمه الرجم. فأمر بها رسول الله فرجمت. ( تفسير القران الكريم, الجزء الثالث, محمد عابد االجابري). سنتقصى الكلمات المفتاحية التي  ستوفر لنا فهما للنص واضح ولا يتعارض مع فهمنا لنصوص اخرى.

 

من دلالة سبب النزول يتضح أن الرسول أقر الشريعة اليهودية في تطبيقها على اليهود ولم يجاري من جائوه لأنه رأى فيهم من يتبع هواه وليس الحكم بما أنزل الله.  نستخلص من الحدث أعلاه أن الاسلام الممثل في هذا الموقف بشخص الرسول لم يفرض حكم الإسلام أمام هذه الواقعة وانما اكد على تعدد الشرائع،  والمعيار المعتمد بحسب دلالة النصوص في الاقرار بأي شريعة أخرى غير ما ورد في الدين الاسلامي هو الحكم بما أنزل الله.

ورد " الحكم بما أنزل الله" في الأيات أعلاه كمناقض لاتباع الأهواء أي الحكم بمقتضى الرغبات والمصالح الشخصية, فيكون الحكم بما أنزل الله بعد الاقرار بتعدد الشرائع كما ورد في منطوق الأيات أعلاه هو الحكم بالعدل وبما يقتضي المصلحة العامة والنظام العام.

وكتعقيب أخير وضع الله في الايات السابقة حكم الله كمرادف للعدل والقسط مقابل حكم الجاهلية كمرادف لاتباع الأهواء.  اذا ما اقصاه الاسلام من دائرة المعترف به ليس الشرائع الأخرى وانما حكم الجاهلية المتمثل باتباع الأهواء.

 

 

 

وفي نفس السياق ننتفل الى الايات 72,73,74 من سورة المائدة:

 

72    لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ

73    لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

 

74أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

 

من منطوق الايات اعلاه عند ربطها بسياق الايات السابقة يتضح أن الاقصاء عن دائرة الحكم الاسلامي وقع على المشركين بالله أي الذين لا يؤمنون بأله واحد وهو الله, اذا نستنتج بالمفهوم العكسي ان كل المؤمنين باله واحد بمن فيهم اليهود والنصارى هم داخل دائرة الحكم الاسلامي طالما أنهم يحكمون بما أنزل الله بحسب ما وضحنا دلالتها أعلاه.  واقصائهم اي المشركين والكفارعن الدائرة الاسلامية بحسب الايات أعلاه لا يعني محاربة المسلمين لهم لهذا السبب بل ترك أمرهم لله حيث ورد في الأية الثانية والسبعون أن من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ولم يفرض قتالهم. 

 

ما يؤكد كلامنا بخصوص الايات السابقة ما ورد لي الأية 69 من نفس السورة: 

 

69.     إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.

 

ننتقل الان الى سياق اخر من الايات التي تناولت الموضوع وهي على درجة عالية من الأهمية والتداول وهي الأية الأولى والأية التاسعة والخمسون من سورة النساء: 

 

َيأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.

 

ابتدأت سورة النساء بالحديث عن  خلق الله البشر من نفس واحدة وأنه بث منها رجالا ونساء.  اذا هي تتحدث عن وحدة الأصل وعن ضرورة التضامن والتكافل وحفظ الحقوق وذلك لا يتحقق بمفهومنا كبشر وكما سيتضح من الأية التالية أعلاه الا بوجود نظام حكم عادل لا يتبع الأهواء وذلك بطاعة الله والرسول وأولي الأمر. لنقف قليلا عند المقصود بطاعة الله والرسول وأولي الأمر. المقصود بطاعة الله هو الحكم بما انزله بتطبيق نظام عادل ليس فيه ظلم  واتباع للأهواء والذي هو بمفهومنا المعاصر نظام القانون العام المجرد الذي يسري على الجميع بدرجة متساوية ويبتعد عن مصالح الحكام الذين هم أولو الأمر الشخصية. وبخصوص طاعة الرسول فالمقصود بها تطبيق ما أنزل الله عند أي نزاع ينشأ في حياته واتباعه بما خصه الله بالقرأن كما في الأيات التي دعاه فيها الى قتال المشركين, ثم نأتي الأن على طاعة أولي الأمر, هم بمفهومنا المعاصر الحكام أو النظام الحاكم بقدر ما يطبقون حكم الله كما وضحناه أعلاه وان حادو عن الحكم بما أنزل الله يبطل الالتزام بطاعتهم.  

بالذهاب أبعد في دلالة الأيتين أعلاه نرى أن الدين السلام ركز على تحقيق الوحدة والقضاء على أي نزعة تفكك والتي تمثلت تاريخيا بالقبيلة وبالفرق الإسلامية المتعددة وتتمثل في واقعنا المعاصر بالفرق والطوائف التي حادت عن الحكم بما انزل الله واتبعت أهوائها أي مصالحها الشخصية والمذهبية وليس مصلحة المجتمع باكمله او بمنظور أوسع مصلحة الانسانية التي ترتد جميعها الى النفس الواحدة كما وورد في الأية الأولى من سورة النساء.

 

وكي نزيل الشك في المقصود من الايات الواردة أعلاه بما يتعلق بالسياسة التي أقرها الدين الاسلامي بخصوص نظام الحكم سنجد في هذه الايات من سورة الشورى مطابقة دقيقة لما سبق وأعطيناه من دلالات: 

 

1.     شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ

2.     وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ

3.     فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.

 

ورد في الأيات السابقة تأكيد على تعددية الشرائع التي نصت على الحكم بما أنزل الله وربط مفهوم الحكم بما أنزل الله بمفهوم العدل وأن التفرقة هي نتيجة اتباع الأهواء والانحراف عن تطبيق حكم الله ثم في الأيه الاخيرة, ان مصير أي نزاع أو شقاق هو الى الله هو من يحكم به وليس للبشر أن يقرروا في هذا الأمر.

 

بقي كي تكتمل الصورة ان نشير الى مفهوم الشورى الذي ورد في الأية الثامنة والثلاثون من سورة الشورى:

 

           وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.

 

وردت هذه الأية في سياق تعداد الأخلاق الاسلامية وهو أن أي خلاف بينهم يعالجونه بالتشاور فيما بينهم.  الشورى هنا مفهوم عام لا يحيل بالضرورة الى نظام الحكم او الى الديمقراطية لكنه يحيل الى الآلية التي على المسلمين أو المؤمنين التعامل بها لحل نزاعاتهم واختلافاتهم بدلا من الاقتتال ولا يوجد  شكل محدد لها أي الشورى. هي اخلاق المسلم التي تمتد الى كافة مناحي حياته بما فيها السياسة ونظام الحكم. 

 

بقي في الذهن سؤال مؤرق يتعلق بالأيات التي حضت على الجهاد  او قتال المشركين وقد شغلني أمرها لان فيها شيء من التعارض مع الأيات التي أوردناها أعلاه بترك مصير هؤلاء الى الله هو من يحكم فيه. من ضمن هذه الايات التي فيها دعوى صريحة للقتال الأية التاسعة والعشرون من سورة التوبة: 

 

قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.

 

صحيح أنه في هذه الأية توجيه صريح للمسلمين بالقتال لكنها وردت في سياق صراع المسلمين مع الكفار في عهد الرسول أي في البدايات الأولى لنشر الاسلام وفي ظل جو محموم بالصراع وبالكر والفر من كلا الطرفين. يتبين من ذلك أن هذا الحث على القتال لم يكن عاماً ومفتوحاً بل كان في ظل صراع موجود وبذلك ليس  في وسع المسلمين في كل وقت مقاتلة الكافرين, ثم من منطوق الأية اقتصره على من لم يؤمن بالله واليوم الاخر أي من هم خارج الدائرة المعترف بها بمن فيهم اليهود والنصارى الذين انحرفوا عن تطبيق ما أنزل الله. وقد نذهب بعيدا في التفسير ونقول بان الأمر كان خاصا بالرسول اي في وجوده بين جماعة المسلمين ولا يمتد الى ما بعد وفاته.  واذا أردنا تطبيق دلالة هذه الاية في وقتنا المعاصر فانها ستتعلق بحماية حدود الدولة من اي إعتداء أو تهديد وأن لا يكون الأمر منفلتا خاضعا لتقديرات شخصية ولحكم الاهواء وانما لارادة من يتولى الأمر وذلك بحسب نظام الحكم القائم.

 

 

هذا ما يمكن استنتاجه لرفع التعارض مع ما أعتقده بشدة القاعدة في هذه المسألة. إذاً هناك حكم عام يقر بالتعددية في الشرائع وفي المذاهب شرط ان لا تتعارض مع الحكم بما أنزل الله اي تحقيق العدالة على الأرض وتجنب الحكم بالأهواء ثم ترك أمر من لا يؤمن بالله كإله واحد وباليوم الاخر الذي هو يوم الحساب الى الله هو من يحكم بشأنهم وليس نحن البشر حيث قد نجانب الصواب في حكمنا وتقديرنا للامور, والاستثناء هو القتال ضمن الشروط التي أوردناها أعلاه.

 

الخلاصة التي قادني الىيها بحثي أن الأسلام لم يكن بعيدا عن قيام الدولة بل ساهم بأحكامه والمبادئ التي رسخها في تأسيسها في عهد الرسول وفي امتدادها لاحقا والتي كانت في بدايات الاسلام شرط لانتشاره ثم لاحقا بعد اتنشار الاسلام على أوسع نطاق تحولت الغاية نحوحفظ المجتمع وضمان الحكم بما أنزل الله.  اذا لا يوجد نموذج محدد لاختيار الحاكم حيث أن المتتبع لبدايات الحكم الإسلامي يرى أنه لم يسلك المسلمون الآوائل مسلكاً واحداً فيمن يخلف الرسول في حكم المسلمين  وأنه  تم تبني بالعموم شكل ونظام الحكم الذي كان مطبقا قبل مجيئ الاسلام في الدولة الساسانية ومن جهة أخرى يجد الباحث في تاريخ الإسلام فرقة وتنازعا شديداً بين تيارات إسلامية عديدة  أرى سببها في اتباع الأهواء التي تمثلت في العصبية القبلية التي لم ننتهي منها حتى يومنا هذا بل ازدادت توحشا بأشكال معاصرة.  وليس شكل الحكم هو القضية انما تحقيق العدل والابتعاد عن الظلم وحكم الأهواء. ورسالة الاسلام في الحكم لا تنكر تعددية الشرائع وتنوع المذاهب طالما أنها لا تتعارض مع المبادئ التي أوردناها اعلاه. وكمحصلة نهائية لا تتعارض رسالة الاسلام في نظام الحكم مع النظام الديمقراطي خاصة أنه اعتبر الشورى من اخلاق المسلم.