تمعنت في تذكرتي جيدا.. لاحظت أن مقعدي الذي خصصه لي السيد 'الخليع' قد احتله أحد الركاب.. ولكن.. لحظة.. من الممكن أن أكون مخطئا.. ربما لم تكن هذه هي العربة رقم '27' المرقمة لدي في التذكرة.. سألت الركاب في المقصورة فأكدوا لي أنني لست بالمخطئ وأن العربة هي نفسها.. إذن فالمكان أوتوماتيكيا سيكون هو نفسه.. مكاني.. ارتديت بذلة الأدب وقمت برسم بشاشة ملائكية على وجهي قبل أن أطلب من السيد المحترم أن يخلي مكاني..
- سيدي هاد البلاصة بلاصتي.. إلا بغيتي تبقى جالس هنا ما عنديش المشكل.. قل لي غي الرقم د بلاصتك و أنا نمشي لها.. بلا ما نعذبك
في الأربعينات من عمره ولكن الهموم والمشاكل زادته عشرين عاما أخرى تكرما منها.. حتى أصبح بطيئا في كلامه وحركته.. قامته ليست بالطويلة ولا القصيرة.. بدين بعض الشيء.. عيناه تكادان تدمعان مما يحمله قلبه ووعيه من أثقال.. لابد أن عليه ديونا لا يستطيع تسديدها.. الله أعلم.. فما أريده هو الحصول على مكاني الذي حجزت عبر الأنترنيت منذ أسبوع تفاديا للازدحام الذي يقع على شباك التذاكر.. أجابني السيد بكل رصانة وعمق..
- خويا راه تا أنا واحد المرا دات لي بلاصتي وما بغاتش تنوض منها..
- (في خيالي) وأنا مال جد مي من هاد الشي كامل.. تدي ليك تا عمرك .. شغلي أنا.. (في الواقع) آه.. أوكي.. أنا غانجلس هنا.. ولكن راه إلا جا مول البلاصة غي خوي ليا بلاصتي وسمح ليا.. (قلت له ذلك مع ابتسامة بريئة)
- وخ يكون خير.. (أجاب وهو يميل برأسه عكسي)
لم ترق لي ردة فعله.. في نفس الوقت لا أريد إحداث شوشرة في المكان خصوصا أن هناك مكان شاغر، ولكن إن أتى صاحب المكان فهو أولى بمكانه مني -وكذلك أنا في تلك الحالة-.. فلأصبر أنا إذن رغم أنني أصغر سنا منه..كان المكان الشاغر في صف الكراسي التي تقابل صفه.. جلست بمحاذاة امرأة تجلس على المقعد الذي يجاور النافذة.. قبل أن تفاجئني بكلامها العذب المعذب..
- البلايص بحال بحال.. مْصَّاب غي يوصل بنادم بالسلامة..
لست من عشاق مثل هذه التدخلات.. نظرت ناحيتها.. سيدة في العقد الثالث من عمرها على وجه التقريب.. لها طفلان ذكرين في عمر الزهور.. وكأنها رسمتهما قبل أن تنجبهما.. لم أجبها.. بل اكتفيت بالجلوس في المكان الذي ليس من حقي وأنا أقول في قرارة نفسي..
- حشومة على وحدة بحالك راسمة هاد الجوج لوحات تنطق بهاد الغباء..
وأنا منشغل بحديثي الباطني.. إذ فاجأني السيد المغربي الصنع تفاعلا مع السيدة فان غوغ الإنجاب..
- والله إلا داك الشي اللي كاين.. دايرين النماري زعما باش ينضمونا.. هاد الشعب راه ما عمرو يتنضم.. حنا شعب فوضوي.. خصنا نرجعو ليامات الحسن الثاني الله يرحمو.. حيت هاد الشعب مكايمشي غي بالعصا..
لم تعد عيناه مبلولتان.. أصبح صوته قويا كفاية ينم عن هوان يعيشه.. كنت أستعد وهو يتكلم لإجابته.. قبل أن أستخدم الحكمة وما استفدته من دروس الفلسفة والدين.. ودخلت في دوامة تحليل لما قاله.. استنتجت في الأخير أن السيد المغربي الصنع قد كان يوبخني بكلامه.. لأنني لم أقم بضربه لما خرق النظام وجلس في مكان غير المكان المخصص له في التذكرة.. خصوصا وأن هذا المكان يخصني.. تنازلت بدون أن أحدث ضجة.. كمن يبيع وطنه دون أن يتفاوض حتى.. استنتجت فعلا أن السيد المغربي الصنع يشتاق لأيام المدرسة حينما كان الكل يسير مثنى مثنى إلا هو يخرج متمردا من الصف.. حتى تفاجئه عصا المعلم ذو الرأس المشتعل شيبا المعروف بصرامته في المدرسة..
- شوف أداك راس الحمار.. بلا ما تحاول طلعها عليا.. أنا راني طيحت سناني فهاد الخدمة.. والديك وخوتك كاملين دازو على يدي.. تجي نتا يا الخانز تحنقز ليا فوق راسي.. دخل الصف يا الله من الزعامة
وضعت سماعاتي في أذني.. شغلت موسيقاي.. رفعت من مستوى الصوت إلى أقصى درجة.. مر وقت طويل.. تجاوزنا مجموعة من المحطات التي لم أعرها اهتمامي.. فقد كنت منشغلا جدا بالموسيقى وبالمكان الذي سيطلبه صاحبه إن هو صعد القطار وقصد مقصورتنا.. ولكن لم يقع أي شيء من هذا.. بقيت منشغلا بالموسيقى مندمجا مع إيقاعاتها.. بين الفينة والأخرى يخترق ذهني كلام السيدة فان غوغ والسيد المغربي الصنع.. فاجأتني يد السيدة فان غوغ على كتفي التي ردتني إلى الواقع.. نزعت السماعات استجابة لها..
- عافاك أخويا ممكن تجبد ليا 'لا فاليز' من الفوق..
- آهاه.. مرحبا
ساعدتها في إنزال متاعها من على الرف المخصص لذلك.. لابد وأنها ستنزل رفقة لوحتيها في المحطة القادمة.. قالت..
- قلت نوجد راسي من دابا قبل ما نوصل للمحطة.. مع الولاد راك عارف.. باش ما نبرزطكمش حتى نوصل
- آه.. بصراحة فكرة ذكية.. وتربحي تا الوقت.. على سلامتك أللا..
وصلنا إلى المحطة التي ستنزل بها السيدة ونزل بعدها ركاب آخرون من مقصورتنا.. بقيت أنا والسيد المغربي الصنع.. لابد وأنه أعجب بمكاني.. فهو لا يريد تغيير المكان.. أهو مصدر أمان له؟؟ بقيت محافظا على هدوئي وكأني أجلس في مقعدي.. والتساؤلات تساورني.. لماذا لم يذهب ليترقب مكانه الأصلي، فربما قد نزلت السيدة التي 'غمقت' عليه في إحدى المحطات السابقة؟ لماذا لا يذهب على الأقل إلى مكان أخر ليترك لي مكاني؟ هل هذه مؤامرة منه؟ أيريد استفزازي كي أصرخ في وجهه ويقوم بوضع يده على قلبه مدعيا أنه يعاني من أزمة قلبية وأذهب أنا نحو مخفر الشرطة؟ تساؤلات لم ترقني صراحة ولكن من حقي أن أتهمه ولو في قرارة نفسي.. في الحقيقة إنني اقوم بتحليل الوضع.. فوصلت للتساؤل الوجودي المعتاد التالي..
- كيفاش أعباد الله واحد عندو بلاصتو.. جالس فبلاصة اخرى.. وكيشوف فمول البلاصة قدامو؟
ربما سأحرج في الدقائق القليلة القادمة بشخص يقول لي 'عافاك هادي راها بلاصتي'.. دخل أناس آخرون إلى نفس مقصورتنا وهم ينظرون إلى تذكرتهم ويتمعنون في الأرقام المكتوبة أعلى المقعد.. منهم من يولي رأسه باحثا في المقصورات الأخرى.. وهناك من وجد مقعده معنا.. تأكدت أنه فعلا هناك من يحترم هذا النظام ولا ينتهك حق الآخر.. لابأس.. فأنا مستعد لأترك المكان لصاحبه بكل أدب وتحضر.. وأعتذر منه أيضا.. لست من النوع الذي سيقول إن هناك من أخذ مكاني.. ملمحا له بأن يأخذ بدوره مكان شخص آخر فتعم الفوضى مجددا وبذلك نكون قد طبقنا المخطط الماسوني في إشعال فتيل الحرب بين أفراد الشعب.. نزل ستة أشخاص من أصل ثمانية في المحطة الماضية وعَوضهم أربعة.. الحمد لله لم يأتي صاحب المكان.. ربما في المحطات القادمة.. لابأس لا زالت لدي فرصة أخرى لأحلل هذا الغباء الذي سقطت فيه.. المكان الذي بجواري والذي يجاور النافذة شاغر وأيضا المقعد الذي يقابله.. مكان استراتيجي يعطيك الإحساس بالمسؤولية عن المقصورة وعلى أي من الركاب ألا يخرج أو يدخل إلا بإذنك.. أحب هذا المكان جدا.. أردت أن أغير المكان نحوه.. ولكن من قال لي أنه فارغ فعلا فلازال بعض الركاب يمرون بحثا عن أماكنهم.. اجلس في مكانك يا صديقي ولا تتحرك.. هدأ الوضع، الكل جالس في مكانه على ما يبدو.. إلا أنا.. وسببي في ذلك السيد المغربي الصنع.. في ظل هذا التفكير الذي راودني.. إذ وقفت فتاة أمام باب المقصورة.. أشارت برأسها نحو المكان الاستراتيجي الفارغ..
- دوك البلايص خاويين ؟؟
أجبناها بصوت رجل واحد..
- آهْ..
قبل أن تدخل نادت على صديقتها مُبشِّرة إياها أنها وجدت أخيرا مكانين شاغرين.. ما هذا !! أليسا مكانيكما؟ أليس المقعد مكتوبا في تذكرة سفرك أنت الأخرى؟ ليس من شأني.. فمكاني محتل، والأَولى أن أدافع عنه ولا أنحرف نحو الدفاع عن الصالح العام.. وصلت صديقتها التي تلهث جراء الجو الحار.. فالزمن صيف.. وهذا اليوم بالذات شديد الحرارة وتشتد الحرارة كلما تقدم بنا القطار.. مكيف الهواء في القاطرة بالكاد 'يبرد على نفسه'.. بلباس صيفي فاتن.. لا تضعان المكياج خشية أن يذوب مع هذا الجو الحار.. أو ربما لأنهما واثقتان من جمالهما الرباني.. الرفوف المخصصة للأمتعة فوقنا كلها ممتلئة.. لم تجد المسكينتين أين تضعان حقيبتهما الكبيرة ذات العجلات.. من الواضح أنهما قريبتين جدا من بعضهما(خواتات ما ولداتهمش ماواتهم لبعضياتهم) تتشاركان الحلو(ة،ى) والمرة.. فحتى حقيبة السفر تتشاركانها.. فلم تكن لكل واحدة حقيبة سفرها الخاصة.. حقيبة جد ثقيلة.. لابد وأنه سفر طويل نحو تازة أو وجدة.. جلست إحداهما بمحاذاتي.. جلست الأخرى أمامها مباشرة.. امتلأت المقصورة مجددا بالناس والأمتعة.. انطلق القطار منذ لحظات قبل دخول حور الدنيا.. المقصورة عادة طاقتها الاستيعابية ثمان أشخاص ولكن مع حقيبة الحور أصبحنا تسعة.. الحقيبة تتواجد بيني وبين حورية البر التي بجانبي.. مما جعلني أميل بأرجلي الطويلة نحو الباب كي لا 'تتنملا'.. أردت أن أطلب منها جر حقيبتها أمامها ولكن توقعت الإجابة الخالية من كل منطق التي ستواجهني فاكتفيت بالصمت والصبر..
- وا خويا شنو غاندير ليك هادي هي الدوزيام كلاص..
من الأفضل أن أجلس وأبكي الأطلال على مكاني الذي لم أستمت في سبيل التمكن منه.. إذن اجلس وتركن وتعذب.. ولا تنس أن تتحمل مسؤولية اختيارك.. القطار يسير.. الوقت يمر.. الأجساد تعبت جراء الحر والسفر.. أحسست بكتف حورية البر التي بجانبي يتكئ على كتفي.. ماذا وقع؟ هل أغرم كتفها بكتفي؟ هل سأسمح في كتفي كما سمحت في مقعدي؟ أردت أن أزحزح جسدي النحيف ببطء كي تفهم أن هذا الفعل يمكن أن يثير غريزة الشعب الراكب معنا.. ولكن عيني سبقت جسدي قبل أن يطبق ما أشار إليه دماغي.. فتركزت عيناي بعيني السيد المغربي الصنع.. وجدته ينظر نحو الحورية التي ارتاحت على كتفي.. رسمتُ ابتسامة عثمانية على ملامحي.. وتراجعت عن قرار الزحزحة.. فاكتفيت بالتسمر وعدم 'التململ' ليس خشية إيقاظ الحورية.. ولكني لا أريد أن أحرم صديقي من جمالية هذا المنظر الطبيعي الخلاب.. عدت وطعنت أذناي بسماعاتي 'الأوريجينال' التي اقتنيت من درب غلف ب30 درهما.. هذه السماعات غريبة جدا.. فعندما أنظر جهة اليسار ينقطع الصوت.. أما إذا نظرت نحو اليمين لا ينقطع الصوت..لابأس.. رفعت مجددا الصوت إلى الأقصى.. رجعت ونظرت في عيني حبيبي المغربي الصنع.. وجدته ينظر إلي هذه المرة.. وكأن لسان حاله يقول..
- ولد ال*
لو تركت لي مكاني لما تفوهت بهذه الكلمة.. أعطني مقعدي وخذ الحوريتين معا ومعهما كأس 'لافوكا باللوز وتبرع ليا بالصيف'.. هيا تشجع واختلق حيلة.. قل أنك ذاهب واطلب مني الرجوع إلى مكاني ثم ارجع مرة أخرى وقل.. ظننت أن هذه هي المحطة التي سأنزل فيها واجلس بجانبها.. ماذا؟ لم تعجبك الحيلة؟.. اطلب مني أن نستبدل مكانينا بداعي أنك تشعر بدوار وأنت تسير عكس اتجاه القطار.. 'وتا عا دوي أصاحبي وخ هاد الشي ما كاينش'..
الحورية لم تكن تعلم ربما أنها تزعجني بطريقة جلوسها.. فقد نامت وكتفها ملتصق بكتفي.. رجلها اليسرى على الأرض.. الرجل اليمنى قامت بطيها على شكل حرف الحاء.. ركبتها اخترقت مكاني.. عمودي الفقري لم يعد يتحمل.. تزحزحت لأنفس عن المسكين.. لم تستيقظ الحورية.. أوهمت عمودي الفقري أنني معتدل.. أصبحت أجلس في نصف مكاني.. النصف الأعلى نحو السقف والنصف الأسفل نحو الباب.. قامت الحورية بتجزيئي إلى نصفين.. لو كانت جميلة كفاية لتجزأت المقصورة بأكملها.. من لطف الأقدار أنني رأيت وجهها أولا حين دخلت.. حينها تساءلت..
- شكون قال سينا خايبة؟
استيقظت الحورية بعد وقت.. مسحت بيدها فمها من اللعاب السائل على ذقنها.. قيلولة رائعة على كتف شاب مسكين لا زال يتساءل عن ما يجعل الإنسان يجلس في مكان غير مكانه؟ اعتدلت الحورية في مكانها ولكن يبدو أنها نسيت أن ركبتها لازالت تخترق نصف مكاني.. لابأس.. الآن إنها مستيقظة سأزحزح نفسي لكي تقوم بإنزال رجلها والجلوس كما يجلس الإنسان في وسائل النقل.. تزحزحت.. تحركت.. تمايلت.. يبدو أن 'الساطة' لم تفهم الرسائل التي كتبت بجسدي الطويل النحيف.. أردت أن أستعمل لغة الحروف ولكن تراجعتُ حينما تذكرت ما كانت قد قالته لصديقتها حينما سألتها..
- غاتمشي لعيد ميلاد لمياء؟
- أتمشي ت*... والله ما نحاشيها ليها.. ديك المنافقة.. نسيتي ديك النشرة اللي كانت نشراتني.. الكلبة الاخرى..
الكلبة رمز للوفاء.. ولطالما استعملتموها في تطبيق السنابشات.. وفي نفس الوقت تشتمين بها.. لابأس.. صراحة لم يكن هذا هو المانع الوحيد.. ولكن تذكرت حبيبي المغربي الصنع الذي لا يترك الفرصة تفوته لينظر إلى تضاريس الجسم المتنوعة المنحوتة بواسطة 'الكولون والبيل صماطي' التي جعلت عيناه تدمع مرة اخرى.. مرت لحظات قليلة قبل أن يتوقف القطار.. حينها تفوهت الحورية وهي تعتدل في مكانها دون أن تقول 'سمح لي أخويا'
- فين وصلنا؟
- سيدي قاسم.. (أجابت صديقتها التي لا تفوتها جمالا وأضافت) ناري عنداك يجيو مالين هاد البلايص وينوضونا.. ما فينا اللي ينوض..
تمنيت هذا لهما خصوصا وأنني تعبت من رائحة (عطرها) أكثر ما تعبت من وضعية جلوسها.. أجابت صديقتها قائلة..
- تي بالرب لا تزعزعت.. تي مالك دختي ولا.. واش انا باقي فيا اللي يتجرجر بهاد الباليزا..
لم تجبها صديقتها بل اكتفت بابتسامة بذيئة على وجهها.. في هذه اللحظة بالذات بدأ جسمي بالارتعاش.. لا أعرف السبب.. ربما تذكرت مكاني المحتل.. أو ربما الجملة التي نطقت بها الحورية تجاوبا مع سؤال صديقتها.. أم ابتسامة صديقتها الماكرة.. لا بل تأكدت الآن أن سبب رعشتي هذه هو كلام حبيبي المغربي الصنع لما أجاب السيدة فان غوغ بأننا شعب فوضوي وتلزمنا 'الزرواطة' كي نُرود.. فهمت كلامه ربما في الأخير.. ليس مهما فهمي لكلامه الآن.. فكلامه غلط ولو وجد له علماء النفس والاجتماع تفسيرا.. لا أتفق مع العنف.. حاولت أن أُهْدئ من روعي.. قلبي أصبح ينبض في جميع أنحاء جسمي.. لم أعد أعرف موضعه الأصلي.. توقف القطار.. شهقت وزفرت بعمق.. اعتدلت رغم أنه لم يكن أي داع للاعتدال.. وأنا غارق في السهو.. امرأة صعدت القطار رفقة أبنائها من سيدي قاسم.. وقفت أمام باب المقصورة.. طفلتها تبلغ من العمر ثلاث سنوات على ما يبدو من جسمها.. الطفل الثاني أعتقد أنه في الرابعة عشر.. لابد أنهم ينادون عليه 'الراجل ديال الدار'.. 'الراجل ديال الدار' يبدو أنه غير متواضع.. فالواضح أنه -لم ولن- يساعد أمه المسكينة المتعبة في حمل الأمتعة.. الأم تحمل الأمتعة ومعها الطفلة.. و'الراجل ديال الدار' وليس 'ديال الزنقة' يحمل بدل ذلك نظارات شمسية لون زجاجها أزرق ويرتدي حذاء من نوع 'التيتانيك' وبذلة رياضية ويضع على رأسه قبعة شمسية تحمل عبارة I don’t care.. فعلا يا صديقي المريول.. you don’t care بأمك وما تعانيه من الأمرَّين.. فإن فتحت فمها وعاتبتك على فعلك هذا فهي تتوقع الجواب الذي ليس له رد..
- وأنا قلت لك ولديني..
أنزلت السيدة ما في يدها من متاع ومعه الطفلة.. مسحت بطرف 'فولارها' عرق جبينها.. فتحت حاملة نقوذها المتواضعة.. أظهرت التذكرتين.. تذكرتها وتذكرة 'مريولها'.. لمحَتْهما للحظة قبل أن تتجه نحو المقعدين الذين تحتلهما الحوريتين.. عرفت من خلال اتجاه عينيها أنها صاحبة المقعدين.. تذكرت ما قالته الحورية.. عادت دقات قلبي لتتسارع.. تنفسي أصبح كإعصار كاترينا.. دمي أصبح بُركانيا في تدفقه.. عروقي بدت أكبر من عظامي.. انشغلت بهاتفي -الذي تحول من ‘smartphone’ إلى ‘stupidephone’ بعد أن حذفت منه كل تطبيقات التواصل الاجتماعي واكتفيت بلعبة 'البارتشي'-.. منتظرا ما قد يحدث مع المرأة المسكينة مع حور الدنيا.. استهلت السيدة كلامها قائلة..
- السلام عليكم.. ديك البلاصة راها بلاصتي أنا وولادي..
تشوقت جدا لمعرفة جواب الحور العين رغم أن الرد جاء سريعا..
- سيري شوفي أختي شي بلاصة اخرى.. تا حنا راه شادين لينا بلايصنا..
حوار تكرر على مسامعي في هذه الرحلة بالذات أكثر من مرة.. وهذا كاف لأن تزيد عوامل التوتر في جسمي.. هذه الإجابة التي أجابت حورية البر التي كانت تحتل مقعد السيدة ونصف مقعدي قبل لحظات.. أبانت على ما تعلمته في الملاهي الليلية.. مقاهي الشيشة.. تعلمت هذا من خلال الزبائن المحترمين الذين تقضي معهم الليالي الزرقاء كي ينعموا عليها بالرعشة العاطفية وبضع دراهم الذل.. جواب ليس بغريب على حبيبي المغربي الصنع أيضا الذي عاش على شعار فارغ 'شتي إلا ما غمقتيش على بنادم غايغمق عليك'..
شهقت وزفرت بعمق.. محاولا تهدئتي طبيعيا.. شعرت وكأني أُمتحن في الإنسانية.. مناظرة الآن تقع داخلي بين مؤيد للتدخل ومعارض.. ماذا سأفعل؟ لم أقرر.. أنظر ناحية من احتل مقعدي فأجده ساكنا.. الناس حولي اكتفوا بالمشاهدة أيضا.. انتصرت في لحظة لمن يعارض التدخل مقنعا نفسي أنني لست من النوع الذي يتدخل في شؤون الآخرين.. لست بمناضل من أجل الآخر.. ربما اعتزلت النضال منذ أخبروهم أنكم مهددون بسنة بيضاء فتراجع الكل إلا فئة قليلة منهم أنا.. كنا كالقردة الخاسئين..لم أعد أثق بأحد.. أصبحت لدي فوبيا من الإنسان ومكره.. ولو كان ضعيفا.. جاء الرد من السيدة..
- أنا ماشي شغلي اختي سيري عندهم قولي لهم ينوضو ليك من بلاصتك.. هاديك راها بلاصتي ها النمرة عندي فالبيي..
- لا اختي راه ما غانوضوش.. (أجابت صديقة الحورية التي بجانبي)
- عيطي على الكونطرولور.. (إجابة الحورية التي بجانبي)
يبدو أنهما واثقتان مما تفعلانه.. مسؤولتان عن كل كلمة تتفوهان بها.. ردت السيدة متوسلة..
- أويلي على الكونطرول.. نوضي لي أختي من بلاصتي الله يرحم ليك الوالدين راني متقلة..
دقات قلبي وتنفسي وتدفق دمي وصلوا إلى سدرة المنتهى.. طفح الكيل وبلغ السيل الزبى
- وراه حتى حنا متقلين (أجابت الحورية التي بجانبي)
- أنا بعدا راه والله ما نوض (قالت صديقتها وهي تتصفح هاتفها)
في خضم هذا الأخذ والرد قاطعهم بكاء الطفلة التي شاهدت أمها وهي تناضل على مقعد هي أحق به من وزير النقل نفسه.. تعالى صوت البكاء.. نظرت لوجه الطفلة فوجدت أن دموعها البلورية بدأت تسقط على الأرض.. أزحت عيني عليها لأواجه أخاها المريول وهو لا يزال يضع القبعة.. قرأت تلك العبارة مرة أخرى 'I don’t care'.. فقفزت بعيني نحو المرأة وهي تنظر بتوسل نحو حور الدنيا تارة ونحو ابنتها مهدئة تارة أخرى.. تجرأت ونظرت إلى حور الدنيا فتخيلتهما كبينكي وبرين.. تودان السيطرة على مكان السيدة.. ثم القطار مرورا للعالم.. جر انتباهي مرة أخرى بكاء الطفلة الذي زاد-يزعجني بكاء الأطفال-..في الحين تذكرت أغنية للفنان عزيز السحماوي يقول في لازمتها 'كاينة الفوضى كاينة'.. لم أشعر بنفسي في تلك اللحظة بالذات..-فقمت بافتعال الفوضى-.. امتدت يدي اليمنى نحو يد حورية البر فقمت بجرها خارج المقصورة.. مصاحبا ذلك بصراخ قوي وصوت صاخب خر له جميع من في المقصورة ذاعنين.. نطقت بكلام نابي لو كان dezzy dross و don big بيننا لخجلا مما تفوهت به.. نطقت الحورية التي مورس عليها فعل الجر مدافعة عن نفسها..
- وسير الله ينعل ال* بوك.. الحمار
أجبتها بأحسن ما خزنت من 'تخسار الهضرة' منذ شهور لمثل هذه المواقف.. نظرت في عيني صديقتها الجامدة في نفس المكان.. وقلت..
- نتي ما غاتخرجيش تبعي صاحبتك؟
تبعت صديقتها دون إظهار أية مقاومة.. ولا حتى أن تتفوه بكلمة.. يبدو أنها فهمت الدرس.. وأنه لا جدوى من الدخول في حرب لن تربح منها إلا 'البودالي'.. خرجت دون أن تحمل 'الباليزا' فتكرمت أنا بحملها ولازلت أتفوه بكلام يخرج من باطن الجسم.. أخرجت 'باليزتهم' واستطردت..
- ياالله سيرو دابا نتوما عيطو على الكونطرولور وقولو ليه واحد الباسل اغتاصبنا قدام الناس..
هذه هي الجملة الأخيرة التي ختمت بها غضبي.. قبل أن أتوجه بجملتي الحاسمة لحبيبي المغربي الصنع بدون مساومة..
- خويا بلاصتي الله يخليك..
ترك لي مكاني وخرج من المقصورة دون عودة.. ساعدت السيدة في أمتعتها حتى أخذت مكانها مع طفليها.. هدأتُ من روع الطفلة.. مددتها بقنينة الماء خاصتي.. ابتسمت للطفلة ابتسامة بريئة تليق بسنها.. نظرت في عيني 'الراجل ديال الدار' وعدت وغرست سماعاتي 'الأوريجينال' التي لا أجد منها إزعاجا منذ بدأت أسافر.. فقد كانت دائما الحاجب الذي يحول بيني وبين سماع أي نشاز يصدر من أي فئة من المجتمع..
القطار الآن بدأ يقترب من مدينة مكناس بعد مرور زمن على الموقف.. لم تظهر حور الدنيا ومعهما 'الكونطرولور' فالبرغم من الهدوء الذي ساد بعد الزوبعة إلا أنني كنت مستعدا لجولة أخرى ممكنة.. بدأت أسترجع ما جرى.. لم يتدخل أحد من الركاب.. الكل يتفرج.. يترقب النتيجة.. بدأت 'أتوسوس'..
- عنداك يكون شي حمار صور هاد التخربيق نصدق داير البوز
ابتسمت ابتسامة صفراء.. وتناسيت الموضوع.. صمت رهيب عم المقصورة لم أفهمه إلى حدود كتابة هذه السطور.. لم يسبق أن وقعت في مثل هذا الموقف.. ماذا حدث؟ كيف استطعت أن أصرخ دون أن يقاطعني الناس من حولي بعباراتهم الشهيرة (انعل الشيطان أصاحبي/ العواشر هادي/ ما تنزلش لمستواهم/ صافي برد أولدي).. كيف سحبت بشرا من يده دون أن يقال لي..
- وخ هكاك ما تمدش يديك أصاحبي ما تقيسهاش..
- هي راها قاستني بكاع الأعضاء ديالها بلا موجب شرع..
الطفلة الآن تلهو بقنينة الماء خاصتي مع أخيها 'المريول'.. يبدو أنها فخورة بانتصار أمها في استرجاع مكانها ومكانتها كأم مناضلة.. أما 'المريول' فإنه يلهو محاولا تناسي ما وقع متمنيا من أعماق قلبه أن يتكرر المشهد في القادم من الأيام كي يزأر.. أما أنا فلازلت أنتظر حور الدنيا ومعهما 'الكونطرولور' الذي سيعاقبني على فعلي الشنيع.. لم تظهرا إلى الآن.. على أي.. وصل القطار إلى مدينة مكناس.. بالضبط محطة الأمير مولاي عبد القادر.. نزلت من القطار.. نظرت يمينا وشمالا.. نظرت خلفي في نوافذ القطار.. لم أجد الفتاتين.. ربما قفزتا من القطار ومعهما حبيبي المغربي الصنع.. أو ربما اختبأوا في المرحاض.. وأنا أمضي في طريقي خروجا من محطة القطار تذكرت أن اسم حورية البر التي كانت بجانبي 'صفاء'.. ضحكت بدون شعور وقلت في همس.. 'مية فالمية غاتكون من برج العذراء'.
فلترافقك السلامة أخت صفاء.. ولترافقني أيضا...