"النخلة ما تجيب ما يعياها" جملة تقولها لي أمي كلما تحدثت معها حتى عبر الهاتف و عرفت أني متعبة،فهي تعرف كل أحاسيسي حتى من نبرة صوتي رغم محاولاتي الفاشلة في تخبئتها...فتبدأ بالسؤال و التقصي و أتظاهر أني بخير و أنفي أي شبهة للتعب أو الارهاق و لكن هيهات أن ينطلي خداعي على أمي...كيف لي أنجح معها؟؟كيف لي أن أخدع أمي و هي التي تحس بي منذ كنت في بطنها...تشعر بي إن تحركت أو سكنت ...و حين ولدت فهي تعرف ما يضطرم بداخلي من نظرة عيناي و حتى ان كنت بعيدة فهي تملك جهازا لكشف كذب نبرة الصوت...فأستسلم مذعنة و أخبرها أني مرهقة بين بيت يحتاج تنظيف و عمل يحتاج إتقان و أولاد صغار يحتاجون تربية و زوج يحتاج احتواء و نفس تحتاج اهتمام...فتصبرني و ترفع من معنوياتي ثم تختمها بتلك الجملة"النخلة ما تجيب ما يعياها" فأسكت و في صدري آلاف الكلمات...يا أمي ليتك تعلمين أني مازلت لم أصبح نخلة مثلك...أنت النخلة الشامخة ضد رياح الدنيا العاتية،الصابرة أمام تقلب الحياة...أتظنيني قوية مثلك...هيهات فليس مثلك أحد يا غاليتي...أتحسبين إبنتك ورثت منك الصلابة و الصمود...أتظنني قادرة على تحمل ما مر بك من ابتلاءات محافظة على نقاء قلبك و صفاء سريرتك و كرمك المفرط و حنانك الدافق....؟؟؟
من يعرفك يظنك شديدة صعبة بنبرة صوتك القوية و هو لا يدرك أنه غلاف خارجي لأحن إمرأة تبكي و تحن على القريب و البعيد...تبكين بحرقة على طلاق أحدهم حائرة على حال أبنائهم...تتألمين لمرض أم و يجزعك حال عائلتها...و الأمثلة كثيرة حتى عدت أتمنى أن لا تسمعي الأخبار لكي لا يتوجع قلبك الطيب...إنه غلاف خارجي لأكرم إمرأة لا ترضى أن يدخل بيتها ضيف دون أن يأكل شيء و لو قطعة شكلاطة تخبيئنها أتتك هدية من أبناءك...لا ترضي أن يقف بائع متجول أمام منزلك ليرتاح دون أن تكرميه و لو بشربة ماء و كأس شاي...لكن برغم كل الحنان و الكرم و الطيبة كنت دائما مثال القوة و الشجاعة...تحملت أعباء تربية سبعة أطفال خاصة بعد خسارة أبي لتجارته كلها و أنا الكبيرة في الثانية ثانوي و أصغرنا عمره شهر...شاء الله أن يمتحن صبركما و لكل ابتلاء حكمة ...صبرت و تقبلت الأمر برضا و رحابة صدر ربما لعلمك أن لا ذنب لأبي فيما حدث...شمرت على ساعدك و عملت...ربيت الدجاج و الأرانب و الأغنام و بثمنها كنا نأكل و ندرس و نلبس....عملت في الفلاحة فجمعت الزيتون و حصدت القمح و الشعير و بحكمتك كنت تتدخرين و تصلحين منزلنا الذي كان ينقصه أبسط المرافق ...صنعت "الخبز"و "الفريكاسي"...كنت لا تخجلين و لا تتذمرين من العمل مادام حلالا و لم تتخلي عنا يوما رغم أني أذكر جيدا يوم أن قال لك أحدهم "أعطيهم لأعمامهم و عماتهم و طلقي زوجك فهو لم يعرف كيف يتصرف و عيشي مع أمك تأكلين باللحم" فدمعت عيناك و أجبت"أفرق أولادي؟؟كيف يمكنني ذلك....أنا بنت أصول و لا أتخلى عن زوجي بعد أن خسر تجارته...لم يسرق و لم يزني و لم يشرب الخمر و لم يقامر...هذا ابتلاء و نحن صابرون "
كنت مثل اللبوة في حمايتنا و المحافظة علينا...لا تأكلين حتى نشبع...دراستنا أولى الأوليات رغم كلام أقرباءنا أنه يجب على أحدنا أن ينقطع عن الدراسة و يساعدك..كنت ترفضين بشدة و تقولين لن أسمح لواحد منكم أن يترك مقاعد الدراسة إلا إذا المعهد رفضه...أحداث كثيرة بحلوها و مرها لا أستطيع في خاطرة صغيرة أن أفي حق أمي التي حاولت الكتابة عنها عديد المرات و أفشل تنهمر دموعي قبل أن تخرج الحروف....أم مثل أمي كيف لي أن أجازيها ...حتى بعد أن تزوجت و أنجبت مازالت الصدر الحنون الذي يحتويني مازالت تحمل همي ...مهما حاولت أن أكرمها إلا و كانت تسبقني آلاف الخطوات...أزورها حاملة هدية فأعود بعشرات الهدايا...أمي حبيبتي حفظك الله و شفاك من كل الأمراض و الأسقام و أسأل الله رضاك