بسم الله الرحمن الرحيم 

إن الإنسان يتعرّض لمواقف كثيرة في حياته منها : ( الحيرة ) وهو موضوعنا اليوم .

إن الحيرة يا سادتي لها أنواعٌ كثيرةٌ ومتعدّدة فهي عبارة عن موضوع أو حدث يحصل مع الإنسان ويجعله حائراً  أو عاجزاً عن حلّه  وأشبه بسلاسل ملتفّةٌ حول شجرة أو طوقٍ حول رقبة  والأمر الأخطر أن تنطبق الحيرة على مقولة مشهورة وهي ( جعل الحليم حيراناً ) .

كانت هناك فتاةٌ ريفيّةٌ تسكن في قريةٍ صغيرة  ولها سبعة أخوةٍ صبيةٌ وفتيات وكانت في العشرين من عمرها ولها أبٌ وأمٌّ قد حنت ظهورهما وأجعدت وجوههما وشاب رأسهما تعباّ من مشاقّ الحياة ومرارة ما عانا من الأيام التي قُضيت عملاً لأجل تأمين حياة أفضل لينعما وأولادهما بعيش هنيٍّ رغيد .

لكن فتاة قصتنا كانت مع الأسف لا تملك أنوثة كما باقي الفتيات فهي تزرع وتسقي وتحصدُ وتعملُ أيّ عملٍ يعجز عنه رجل فقد تربّت على هذا وتأسّست حتّى إذا رآها الرّجال تعجّبوا لأمرها , وذلك لتقليدهم بالعمل والمعاملة حتّى أنها كانت ترتدي ثيابهم وتضع قطعة من القماش ( الشّماخ ) على رأسها للوقاية من أشعّةِ الشّمس وليس لستر عورةِ شعرها مثلاً.


ذات يوم زار قريتَها أحد الرّجال من القرى المجاورة في قضاء حاجةٍ له في القرية , لكن أسفاً لقد أعمى الله بصيرة الرّجل في الطّريق عندما لاحظها وهي تعمل  وأعجِب بذلك الشّاب المتحضّر ( الفتاة ) وأخذ يجوب المنطقةَ بنظراته كلّ يومٍ حتّى التقى بها خفيةً وتحسّس أحوالها وطبيعة حياتها وأهلها ...الخ , لكنَّ بطلنا المسكين مغيّبٌ تماماً فقد سيطر الحبُّ عليه وأقنع نفسهُ أنه إذا تزوّجها سيسترها وتصبح ملكه ويفعل ما يشاء فهي ريفيّةٌ ليست ابنة أحد السّلاطين أو الأمراء , سواء أصبحت من الصّالحات أم تبقى الفتاة المشبّهة بالرّجال .

تعشّش في قلب الرّجل صورة وجه الفتاة وأخذ يسعى يميناً وشمالاً للزّواج بها سرّاً وتأمين الحاجات اللّازمة ليومِ السّعادة والجدير بالذّكر أن الرّجل ذو عائلة وله من الأولاد أربعة وكان فقيراً يعملُ كأجيرٍ كل حينٍ مع رجل , ويوجد اثنين من أطفاله يحملون أمراضاً مزمنة ولا يدري من أين يأتي بالمال لمعالجتهم بل لِنقُل كيف سيعيش ليبقى على قيد الحياة , والأكثر حيرةً أن زوجته الأولى عندما علمت بالأمر طلبت منه شرطاً لم يكن يخطر بباله وأشبه بالحلم في ذلك الوقت وهو أن تكون مشرفةً بنفسها على تزويجه , وكانت تسعى أكثر منه لإتمام الأمر رغم معارضةِ أهله في البداية وبعد إصرار زوجته الأولى تمّت المواقفة من والديه خجلاً .



فبمجرّد موافقة الأهل على ذلك ذهب وزوجته إلى والد الفتاة وطلبوا منه العروس بشكل رسمي , وبعد أشهر تمّ عقد النكّاح ونال وحظِيَ بما تمنّاه بعد عناء , وبقي سؤال ( كيف ) في عقولِ النّاس يصول ويجول وبدأت ألسنتهُم بالحديث حول الموضوع بدهشةٍ لما حصل حتّى أصبح حديث الشّارع العام ولم يبقى أيّ شخصِ لم يشارك ذلك برأيه ولو كان طفلاً , لكن عريسنا كان له رأيٌ آخر فقد قال: كلام الناس ليس له قيمةٌ عندي ولا يعنيني بأيّ صلة .

أجل فقد أضحى صاحبَ الزّوجتين وعروسهُ الثانية كانت بكراً أيضاً وصغيرةُ السّن ويكبرها بخمسة عشر عاماً وهو سعيدٌ بذلك لكنَّه لا يعرف ولم يُدرك من تكونُ البِكرُ الرّيفيّةُ العشرينيّة ففي نظرِه عبارةٌ عن فتاةٍ فقيرة مثله وجمعت بينهم أقدار ربّنا سبحانه وتعالى .


لكن كان غير ذلك كلّياً فبعد مرور خمسة أعوام من الزواج أنعم الله عليه ورزقه بطفلين وتحسّنت أحوال معيشته بالانتقال من خط الفقر إلى التّوضع ضمن الطبقة المتوسطة في المجتمع , بعدها لاحظت صاحبة الجلالة الجديدة فروقاتٍ كبيرة جداً في عشّ الزّوجية تختلفُ تماماً عمّا كان في قريتها وقرب أهلها , فأصبحت تنام على فراشٍ طاهرٍ نظيف بدل الخيمة المهترئة البالية التي تعود لأصالة قريتها الأم وتأكل على مائدةٍ مشتركة بدل قطع الخضروات التي كانت تؤكل وقوفاً تحت أشعةِ الشّمس الحارقة وأصبحت عباءةُ الأميرات لا تليق أو لا تحظى بإعجابها بعد البنطال الرّجولي الملوّث بآفات المكان التي كانت تجلس فيه , ولأن تلك الفتاة في أيام صباها لم يكن أحد يكترث لإرشادها ونصحها بسبب جهل أهل القرية بشكل عام وشبه انعدام التّعليم والوعي والثقافة فأقلّ الصّفات الّتي يجب أن تتواجد في الإنسان لم يكن أحد يعرفها ولا يلقي لها بالاً , فمثلاً  كانت النّاس لا تستطيع تمييز الحلال عن الحرام لأنّهم أصلاً لم يكونوا يعرفونه ولا يوجد من يوجّههم في ذلك الوقت .

   رغم أنّ الفتاة تزوّجت برجلٍ صالح ويعبدُ الله حقَّ عبادته فهذا لا يعني أنّه إذا كان فقير الحال يكون فقير الإيمان أو العلم بدينه بل على العكس كان على صلةٍ دائمة بهذا الموضوع ويحفظ من كتاب الله ما تيسّر له فقد ربّى أولاده على التّمسُّك بذلك والمحافظة عليه تحت أيّ ظرفٍ من ظروف الحياة , أمّا عروسه الثانية لم تستطع ترك عادتها القديمة السّريّة الّتي كانت تتخفّى وراءها واتّضحت بعد سنين طِوال  والّتي أعتبرها جريمةٌ نكراء فمتى بدأت بها وكيف تعلّمتها وكيف كانت تنفّذها ومتى وأين........................؟؟؟ إنها بكل شفافية يا سادتي (( السرقة والكذب مجتمعة ))


أخذت يد عروسنا على السرقة من بيتها و زوجها وشكوك الأولاد والزّوجة الأولى في ظلّ غياب الأب عن البيت لكن شكوكهم لا تنفع من وجود دليل أو إثبات يجعلها تدلي بالاعتراف , مرّت الأيّام وتوالت السّاعات حتّى استيقظ أحد الأولاد ذات يوم ورآها تدخِل يدها في جيب أبيه ...!! هنا ظنّ الولد أن الفرصة قد سنحت له ووجد الدّليل القاطع لإدانتها أمام الجميع وأسرع إلى جوار أبيه وأخبره بتفاصيل الأمر , وعند سؤاله لها قالت : وبكلِّ قلبٍ مطمئن كنت أفرِغهُ لأنّه بحاجةٍ إلى غسيل......!!!  بُهِرَ الولد من قولها محدّقاً بعينٍ يملؤها شرارٌ من غضب وردَّ الأب تجنباً للفتنةِ والافتراء بقولهِ صدقتِ يا امرأة ....!!


تكرّرت الحادثةُ عدّةَ مرّات وكانت تجدُ مخرجاً للتّخلُّص والنّجاة من قول الحقيقة بحصد الكذب وإظهار العفاف والشّرف حتّى لو اضطرّت لأداء يمين على كتاب الله الشريف المقدّس , عندها بدأ الأولاد ببغضها والحقد عليها وأمّهم أولى الزّوجات لا حيلةَ لها مع قلبها الطيب وإخلاصها لزوجها ممتثلة لأمره ومنفذّةً كلامه على النّحو الذي يرضيه واعتبرت القضيّة تعود لصاحب القرار وهو الأب المسكين ولكن ماذا بعد : تشتّتت العائلة وأصبحت كما الأحزاب فالأولاد مع أمّهم حزب وزوجة أبيهم حزب وأولادها حزب آخر والكلُّ يسعى لإرضاء القاضي من جهته ولم تنتهي الخلافات إلى يومنا هذا فعهدنا بذلك الفتاة الريفيّة لصّاً كسبَ احترافه على حساب رجلٍ زلّت قدمه في مصيدتها واستمرّت في عملها حتّى تعجرفت وتمرّدت ولم يستطع أحدٌ ردعها , فمن لم تنفع معه وسيلة الوعظ والنصح بالحسنى وإحاطته بعذاب الله و نار جهنّم  لن تنفع معه طرق و وسائل التّهديد بالضّرب أو الطّرد أو الهجران وبقي أفراد العائلة الكريمة عاجزين عن حلّ تلك المعضلة الّتي أتعبتهم سنيناً وأياماً محاولين إيجاد حلٍّ أو طريقة لكن مع الأسف كلّها باءت بالفشل دون جدوى .



استمرّ تداول الخلافات العائلية مدّةً ليست قليلة فقد مضى على مكوث الزوجة الثانية في البيت الجديد ثمانية أعوام , ودون أيّ تغيير في طبيعة الحال والعادات السّيئة التي تحملها بل على العكس أصبحت تعمل على تطويرها وإكثار مصادر الرزق الحرام , وكانت النّافذة الجديدة الّتي لا أفق لها هي مقابلة عائلةِ زوجها وأخوتِه وزوجاتهم بكثرة طالبةً الودَّ والقرب منهم لكن لغايةٍ في نفسِ يعقوب , وبعد إظهارهم الإحسان والجميل لها بدأت بزرع الفتن بينهم وبين أخيهم الكائن زوجها كي تستطيع ان تجذبهم نحوها في حال وقوع أيّ حدث يكونوا بجانبها ويؤيّدوا قولها وفعلاً حصل ما سعت إليه بخبثٍ وحيلة .


افترق الأخوةُ أكثر من مرّة وأصبحت علاقتهم جامدةً جداً بحيث لا يمكن أن ترجع كسابق عهدها فالبيت الكبير الذي كان يملؤه الحب والتعاون والتشارك أمسى بيت الفتن والحقد وتأييد الباطل بعد أن سوّدت تلك الخبيثة صورة زوجها بعين إخوته وأهله لأنّهم لا يعرفون الحقيقة , وكل هذا كان للتقرُّب منهم أكثر وإظهارها لهم حال المرأة المظلومة المسلوبة الحقوق وفي نفس الوقت زيادة مصادر السرقة وتطوير الّلسان على الكذب .

وبعد أسابيع طالت يدها جيوبهم وتعقّد الأمر أكثر فأكثر , عندها تخبّطت أيامهم وأحوالها جميعها وأدركوا أنهم قد سقطوا في الكمين وأن الأحداث الأخيرة ليست في صالحهم أبداً , تقابل الأخوةُ في ساعةٍ سادها عتابُ زوج المرأة المظلومة إخوته على ما فعلوه وتأكّدوا من صحة كلامه لكن كان قد فات الأوان بعدما سُرِقوا وتضرّروا وهم مكتوفي الأيدي وألسنتهم مكتومةٌ لا يستطيعون إنكار ما قالوه بحقِّ المرأةِ ضدَّ أخيهم الدّرويش .  

هل تعتقدون أنّ الحكايةَ انتهت ؟ لا يا سادتي بل بدأت لتوّها لكن بطعمٍ آخر وبسهمِ قوسٍ آخر , فمن سنّةِ الحياة أن يتزوّج الإنسان وينجبَ أولاداً وكم يفرحُ عند قدوم مولوده الجديد إلى الدّنيا وكم يسعى ويشقى لتربيتهِ على الأخلاق الحسنة وتوجيهه نحو الطّريق الصحيح وكم تسهر أمّهُ من ليالٍ على راحته ورؤيته يكبر أمام عينيها فهي نبع الحنان الذي لا ينتهي ولا يمكن لأحد أن يرُدَّ لها ربع ما قدّمت لأجله مهما فعل .

أما الكارثة العظمى عندما تختلف طريقة التربية والتوعية في طبيعية المنشأ وكما قال الشافعي :

 وينشأ ناشئ الفتيان منّا               على ما كان عوّده أبوه (أهله)

ونظراً لانعدام ثقة العائلة القديمة والأولاد بخالتهم التي هي زوجة أبيهم , عندها انعزلت بشكل تام وتمسكت بعادتها الّتي كانت محتارة في وريثها فأخذت على عاتقها تربيةُ أولادها بنفسها في ظلّ نقص دور الأب بشكلٍ ملحوظ وكأنها تُؤدّي مهمّة المعلّم الذي ينتظر ثمار ما زرعه ضمن العام الدّراسي  كي يشعر بالاطمئنان ويحظى بجمهورٍ يشجّعه ويدفعه . 

وما إن كبُرَ الأولاد قليلاً حتّى أصبحوا يتقنون مهنةَ أمّهم وتعلّموا منها الإخلاص في العمل بحيث يتوجّب التّستُّر عن جرائمها الخبيثة منوّهين أن أعمار الأولاد تتفاوت بين الثامنة والعاشرة , لكن كانت نِيّةُ الأم هو تلبية أيّ طلب للأولاد من أجل تربّعِهم تحت عرشها وبالتّالي هم لا يرفضون لها أمراً البتّة وذلك بعدم الاحتكاك بشكلٍ مباشر مع أولاد خالتهم وهي الزوجة الأولى , وأثناء العمل وجدت أن القضاء عليهم صعبٌ ويتطلّب التّماس المباشر فأصبحت تجعل من أولادها طعماً تلقيه في أوساطهم لجلب الأخبار وتقديم التّقرير اليومي لفخامتها ونستدِلُّ هنا بقول الرّصافي :

هي الأخلاق تنبت كالنبات
                   إذا ُسقِيَت بماء المكرُمات
تقوم إذا تعهّدها المُرَبّي
                   على ساق الفضيلة مثمرات
وتسمو للمكارم باتِّساق
                   كما اتّسقت أنابيب القناة
وتُنعش من صميم المجد روحاً
                   بأزهار لها ُمتَضوِّعات
ولم أر للخلائق من مَحَلّ
                   يهذّ بها كحِضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت
                   بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تُقاس حسناً
                   بأخلاق النساء الوالدات
وليس ربيب عالية المَزايا
                  كمثل ربيب سافلة الصفات

وهل ُيرجى لأطفال كمالٌ
                   إذا أرتضعوا ثُدِيّ الناقصات 

أعزّائي القُرّاء ومع انتهاء الجزء الأول من قصتنا أودُّ التّنويه لأمرٍ أكثرتُ من ذكره ألا وهو النّعت الّذي وصفت به المرأة وهو ( الرّيفيّة ) , إنّ هذا النّعت لا ينطبق على جميع أهل الرّيف أو القرويّين بشكل عام بل من النّادر أن نجد شخصيّة القصة تلك في مجتمع ريفيّ وهذا ما دفعني أن أكتب اولاً لتأريخ حادثة مجتمعيّة ثانياً لوصف عنوان القصّةِ الرئيسي وثالثاً لِرُؤية ومناقشة اقتراحات وآراء النّاس وليس الهدف تشويه صورة الأرياف وسكّانه .


لطالما عهدِنا التزام أهل الأرياف والتعصب لعاداتهم المشرّفة وأخلاقهم الحميدة الّتي يتمنّى أي متحضِّر أن تكون ملكه وأهمُّها إكرام الضّيف والحرص على استقباله بصدرٍ رحب وروحٍ صافية وكما عهدنا طرق ووسائل تربية الأطفال وكيفيّة تنشئتهم رغم انعدام الطّبقة المثقّفة فأدنى خطأ يطرأ من طفلٍ أو شيخٍ أو امرأة يُعاقِب عليه القانون الريفيّ الأصيل بأقسى الإجراءات , وأنا شخصيّاً يشرّفني ويسعدني أني ريفيٌّ ومن أصولٍ عريقة التّاريخ والأثر.