تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين(2)
وكونها - أي الآيات - (نتلوها) بضمير الجمع دلالة على قوة السلطان والقيومية البينة والإحاطة الشاملة. كما يشيع في الكون للنص السيادة، وتشتمل للقائمين به الريادة، وتنتشر فيه العظمة لله تعالى.
ومنه نفيد تمجيد ربنا وتعظيم خالقنا سبحانه. فله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون.
وكونها(عليك) يوجب علو منزلها واستواءه على عرشه كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه. كما وأنه موجب تسبيحه وقاض تنزيهه.
وكونها(عليك) موجب للإختصاص.إذ لا يشاركه أحد ذلكم الفضل العظيم ولاتلكم المنزلة السامقة.
وكونها(عليك) مؤذن بإحاطة النائب بعمله الموكول إليه كله ليحسن أداءه ويتيقن بيانه. فلا ثمة إهمال ولاشبهة استشكال. فيبدو العمل بعد أدائه منسجما. وينتج أثره في الإنتاج. وإتقانه في الصنعة. فتنال القبول ويلحقها الرواج. فتعلو أمتنا وتسمو جماعتنا.
وكون آياته تعالى متلوة( بالحق) فذلكم اليقين عند التنزيل وهو الحق أمام التأويل أن ما يكون من الله تعالى ربنا هو الحق عينه. فلا يلحقه ما يلحق ميزان الأغيار من إضافات، ولا يشوبه ما يشوب حكم غيره من اختلافات، ولا يتضمن ما يتضمنه كلام غيره من تغييرات، ولا يسوؤه ما يسوء بيان غيره من التباسات، ولا يحيطه ما يحيط أمر غيره من إشكالات. فهو الحق المبين في ذاته البين في دلالاته.لأنه (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[قصلت:42].
ومنه نفيد ثقة مطلقة في كل ما أتانا من الله تعالى أنه الحق ولاحق غيره. فتغمرنا طاقة المسارعة إلى الانقياد، ودافعة الهرولة إلى الامتثال، وآصرة الخضوع والطاعة عن محبة ورضا وقبول.
وكونه(بالحق) دافع للأمم أن تدفع عن نفسها الباطل، وأن ترد عن دينها العدوان وان تجاهد عدو الله وعدوها. إعزازا للديانة، ونصرا للملة، وحفظا للديار، وحراسة للأوطان.
وكونه بالحق يورث الطمأنينة لسلامة القصد وسمو الهدف. مما يكون عاملا حاسما في إعداد النفوس، وتعبئة الجند محبة للجهاد، وتفضيلا للقتال. كيما تنال الظفر أو شرف المنزلة بالشهادة في سبيل الله؛ وهما الحسنيان. وكفى بهما تسمية من الله تعالى.ألم ترأنه تعالى قال(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْ)[التوبة:52].
وكونه بالحق دليل صدق القائد في نقل وابلاغ ما توجه إليه من قرار أو أصدر إليه من تعليمات. فكلها يبلغها ولا يستأثرن بشيئ منها أبدا. لأن كون الرسولﷺ مجتبى لتحمل أعباء الرسالة وتكاليفها فإنما كان البلاغ أول درجاتها.
وكذا فإنه ملابس لليقين بلا ريب أبدا.
والحق هو شرعه تعالى لا شرع من سواه. فكما أن ما جاء من الله تعالى هو الحق فكذلكم ما يشرعه غيره هو الباطل فيما يدخل في دوائر التحليل والتحريم.
ودليل صدق الرسولﷺ واتباعه أنه حكى هذه الآيات وأخبر عن تلكم القصص وكأنها كانت مشاهدة عنده.ومنه نفيد الدقة المطلقة في الاتباع والتناهي في العبودية.
وكونه بالحق ينفي عنه زعمهم كونه ساحر أو مجنون. ويثبت كونه رسولا نبيا.
وكونه بالحق فيه إشعار بانتفاض أهله لمواجهة الباطل وأهله فلا يعتورهم تخاذل ولا يفت في عضدهم وهن. كيما ينصروه وكيفما حفظوه نكاية في عدو الله تعالى وعدوهم. وتلكم سنة التدافع وتيكم فريضة الجهاد إذ به ينكشف الغطاء ويزول الستار. قال الله تعالى :( فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين) [ البقرة: 251].
ومنه كان لزاما على الأمة أن تنهض بصناعاتها فلا تركن إلى غيرها ولا يذلها عدوها. فيورد إليها سلاحا قديما أو يفرض عليها شرطا أليما. فيكون وكأنه وعدمه سواء بسواء. فكان أشبه بالتسلية وأقرب إلى التخلية!.
وكونه بالحق فيه شرط ألا يتولى زمام أمتنا إلا عن قدارة واقتدار لا عن جهالة واستهتار فيكون ذا قوة ذاتية ومكتسبة معا. كما يكون ذا علم وتدبير فلا إسراف ولا تقتير.
وكونه بالحق فيه تعريض لما عليه القوم – بنو إسرائيل – من الباطل.
وكونه بالحق أوجب على أهله دعاء الله تعالى تثبيتا عليه كركن شديد يستوفون منه عونهم ويستمدون منه قوتهم.
وكونه بالحق فيه تحفيز للجنود وشحذ لهممهم. إذ القتال قتال فالأمر جد لا هزل فيه ووعد لا خلف له. كما في(قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[البقرة 246].
وكونه بالحق فيه استيثاق القائد من صدق عزائم المجاهدين ألا ينكصوا وألا يحيدوا وألا يتزعزوا فلا يتسرب إليهم فتور ولا يتملكهم خور. كما في(قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[ البقرة:246]. واستيثاقهم دائما واجب فيمكن أن ينشطوا حينا ويجوز أن يكسلوا حينا آخر. وهذا الاستيثاق وتلك المتابعة للجماعة المسلمة والمجاهدة منها بوجه أخص قائمان على أسس تقواها ومتابعتها لشرع مولاها. كيلا تحيد عن الجادة ولا تصرفها بواعث المادة. ألم تر أنهم ( قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) ثم ( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[ البقرة:246].
وكونه بالحق يوجب أن يكون القتال في سبيل الله ولو كان الباعث على ذلك الإخراج من الديار أو الأبناء. قال الله تعالى(قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[ البقرة:246].
ومنه إزاحة المبطلين عن قيادة المؤمنين بكل سبيل ممكن وبكل وسيلة متاحة ضمن حدود شرعنا ونظام ديننا. وذلكم من أصول الدين وقواعد الملة. كما في(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)[ التوبة:29].
وكونه بالحق يقتضي الوقوف على اختيار الله تعالى بلا مماحكة أو مماطلة.
وكونه بالحق دال على صدق الدعاء لدى مجابهة الشدائد فالله تعالى في عقد كل مؤمن هو الناصر المعين(وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)[آل عمران 126]. وماهذه الأسباب إلاابتلاءات من الله تعالى لعباده ألا يتكلوا تارة وألا يتواكلوا تارة أخرى. قال الله تعالى :( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)[ البقرة :250].
وكونه بالحق يوجب إسناد النجاح في أداء المهمات الى أهله ابتداء مع تقديم مشيئته تعالى في كل حال. وفيه تشجيع للمستخدمين وجبر خواطرهم وشحذ هممهم كيما تتعود الولاء والإخلاص والتفاني والشجاعة والإقدام.
ولأن اختيار الله تعالى كان وحده كافيا لانقياد القوم؛ فيكون لهم آنئذ فضل المسارعة إلى الطاعة وجزاء المبادرة إلى الانقياد. فحازوا بذلك ثواب السمع، ونالوا شرف الطاعة، وسبق فضيلة الإذعان، ونيل رفعة درجة العبودية.
وكونه بالحق ألا يكون القتال معتبرا إلا إذا كان في سبيل الله تعالى. ولا يكون في سبيل الله إلا إذا كان قائما على كون أن تكون كلمة الله تعالى هي العليا. كما روى البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. (البخاري:2655).