Image title

بقلم: علي طه النوباني
تتكون بنية الدولة الديمقراطية القادرة على الإنتاج والتقدم من مكونات أفقية، وأخرى عمودية.
أهم المكونات الأفقية هي الأحزاب التي يمكن أن تضم في عضويتها كل أطياف المجتمع: المزارع والصانع والتاجر والمهني والعامل والمتعلم وغير المتعلم والغني والفقير...، وهي بذلك لا بدَّ أن تتبنى مشروعا يلائم جزءاً كبيرا من المجتمع. وهي أيضاً بما تمتلكه من قدرة على استيعاب أحلام الناس وآمالهم الأقدر على المشاركة السياسية وصناعة القرار أو المشاركة فيه والذي يأخذ بالاعتبار مصالح كل الطبقات والمكونات الاجتماعية المتنوعة. ومن المكونات الأفقية للمجتمع أيضا الروابط الثقافية والهيئات بشكل عام؛ وإن كان بعضها يندرج ضمن التشكيلات العمودية من ناحية أنه مغلق في عضويته.
أما المكونات العمودية فهي بلوكات مغلقة غالبا تقتصر على فئة ذات مواصفات خاصة لا يستطيع غيرهم أن يندرج فيها أو يستفيد مباشرة من إنجازاتها مثل النقابات والتجمعات العشائرية، فلا يمكن لطبيب أن يصبح عضواً في نقابة المهندسين، أو موظف أن يصبح عضواً في نادي رجال الأعمال، أو لشخص من العشيرة ( أ ) أن يصبح عضوا في العشيرة ( ب ).
النوعان من التشكيلات الاجتماعية ضروريان ومهمان في بنية الدولة والمجتمع؛ لكن اختفاء واحد منهما لصالح الآخر يسبب اختلالا خطيرا في بنية الدولة والمجتمع، فإذا ما ضعفت مؤسسات الأحزاب التي تحاول - بشكل عام - تكوين رؤية تحقق شكلا من التوافق الاجتماعي بحكم حاجتها إلى الرضا العام عن برنامجها؛ فإن الناس تلقائياً يتجهون إلى البنى العمودية التي تحول المجتمع إلى حقل للتنافس على المكتسبات المشروعة حينا وغير المشروعة أحياناً، فليس هنالك من يمتلك شرعية الحكم/الإدارة من الأغلبية العامة للناس بسبب غياب المؤسسات الأفقية وعلى رأسها الأحزاب السياسية.
وهكذا تتجه السلطات الدكتاتورية الحاكمة إلى إضعاف المكونات الأفقية للمجتمع، وتعميق الفجوة بين المكونات العمودية من أجل إلهاء الناس وضربهم ببعضهم البعض إذا لزم الأمر في سبيل البقاء في السلطة. إنَّ تكثير البنى العمودية في المجتمع وتعميق الهوَّة بينها مقابل غياب البنى الأفقية ذات التشكيل الصلب يؤدي إلى تفتيت المجتمع بهدف إحكام السيطرة على مقدَّراته، وإطلاق أيدي الفاسدين والانتهازيين.
الخاسر الأكبر في هذه المعركة هم الفئات المهمشة والضعيفة، أولئك الذين لم تمكنهم ظروفهم من الاندراج في أي من البنى العمودية التي تحقق المكتسبات، وكلما اتسعت رقعة الفئات المهمشة كلما ازداد التهديد على الدولة والمجتمع، لكنَّ النّخب الحاكمة تنتخب من بين هؤلاء المهمشين مجاميع تستميلها إلى جانبها بطرق عديدة لكي يواجهوا بقية المهمشين إذا ما فكروا بتغيير هذه البنية المشوهة للمجتمع والدولة.
وضمن هذه الحلقة المفرغة فإننا نتحدث عن طرفين متباينين: السلطة والمستفيدون منها من جهة، وهم مرتاحون للغاية، ولديهم إمكانات هائلة لتوفير البدائل والأدوات وعلى رأسها التلاعب بالدلالات المعرفية لتحويل اللاأخلاقي إلى أخلاقي، والأسود إلى أبيض، والطرف الثاني يتكون من المهمشين بما منحتهم إياه ظروفهم من نزق وقلة حيلة وشعور بالخسارة، - ضمن هذه الحلقة المفرغة تدور مجتمعاتنا المقهورة، وتتسع رقعة المهمشين كل يوم على حساب مستقبل الأجيال القادمة وحقِّ المجتمع في التقدم والرفاه. والمشكلة الأبرز في هذا التشكيل المؤلم للمجتمع أنه يدرِّب عدداً هائلاً من الذئاب الجاهزة لاختراع أساليب جديدة من الافتراس المتوحش مبعدة المجتمع عن كل ما هو إنساني ونبيل.
ربما كان التلاعب بالمحاور الأفقية والعمودية للمجتمعات العربية على هذا النحو وصفة من الكولونيالية الذين عاثوا في بلادنا فساداً – وما زالوا - منذ أن رسموا الحدود بيننا بالمسطرة، وجعلونا نتبناها ونحارب من أجلها، بل إن البعض أعاد كتابة التاريخ بما يتوافق مع تلك الخطوط، وحالنا في ذلك حال النملة البائسة عندما ترسم حولها خطاً بالطبشورة فتبقى تدور حول نفسها مثل ثور الساقية. وإذا كان الأمر كذلك فأين هي وصفتنا التي تخرجنا من دائرة ثور الساقية الذي ينتج التخلف والبؤس والمظالم المتراكمة التي لا تحملها الجبال.
وعلى كل حال فإنَّ الغابة معاكسة للحضارة وعودةٌ إلى حيوانية البشر، فتوقف أيها الثور عن الدوران، وفكر قليلاً لعلنا نوجد لنا مكاناً على خارطة العالم قبل أن يطوينا النسيان.