بقلم: علي طه النوباني
الدولة الحديثة كل متكامل من الآليات والمؤسسات التي تتكامل مع بعضها للوصول إلى أفضل وضع ممكن لحياة الناس، فإذا ما اختل جزء من تلك المؤسسات، أو لم يوجد أصلاً، فإن بعض الأطراف ستستقوي على الأخرى، ويصبح الحال صراعاً عشوائياً على المكاسب ينتهي إلى الفوضى العارمة، وتغول الفساد والمحسوبية، والويل والثبور للضعيف الذي لا يملك سنداً يُحَصِّلُ له جزءاً من حقوقه في غابة الفوضى العارمة.
الأصل أن الأحزاب القوية تتنافس على تحقيق رضا السواد الأعظم من الناس لتحقق التوازن والعدالة الاجتماعية ، ذلك المصطلح الفضفاض الذي يعـرِّفه كل على طريقته. وبالمقابل فإن النقابات المهنية تسعى لخدمة منتسبيها، وتحسين أوضاعهم وشروط استخدامهم وأجورهم.
فكيف وصلنا إلى هذه الحال في الأردن؟
أحزاب ضعيفة ليس لها وجود في الشارع.
مهنٌ لها نقابات تدافع عن حقوقها، فمنها من يستجاب له، ومنها من يصرخ في الفراغ.
مهن أخرى ليس لها نقابات وتصمت مرغمة على الجوع والذل.
عاطلون عن العمل، وأشباه عاملين في وظائف لا تكفل الحد الأدنى من الحياة الكريمة. وطبقة مسحوقة واسعة تشكل واحة خصبة لبذور التطرف والجنون.
سلطة تنفيذية لا يحكمها دليل إجراءات وسياسات واضح ومحدد، تتخذ قرارات مختلفة في حالات متشابهة، وتتصرف بمزاجية شديدة التقلب، فهي تعطي من تشاء، وتحجب عمن تشاء بغير حساب، بل إنها تُـفصِّل الوظائف على مقاس الأشخاص، ولا تبحث عن الأشخاص الذين يناسبون الوظائف.
الأحزاب السياسية القوية هي التي تحافظ على التوازن بين السلطة والشعب عندما تحتدم الخلافات وتستحكم الأزمات، وهي التي تمثل كافة أطياف المجتمع اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وهي التي يُـفترض أنه من الممكن لها أن تصل إلى السلطة فتتمتع بالولاية العامة التي من شأنها معالجة الاختلالات بقوة وحزم. فمن هو الذي أوصل الأحزاب في مجتمعنا إلى هذه الحالة المأساوية؟ وكيف ضعفت إلى هذه الدرجة حتى أصبح الناس يشيرون إلى الحزبية باستخفاف واستهزاء.
ألم تمتلئ السجون يوماً بالحزبيين؟ ألم تلعب الحكومة وأجهزتها دوراً أساسياً في شيطنة الأحزاب؟ ألم تخلُ مناهج التعليم من الحديث عن الشكل السياسي للدولة وأهمية مؤسسة الحزب وأنها الوحيدة القادرة على إشعار الناس بالمسؤولية من حيث أنهم صاغوا سياساتهم بأنفسهم فتحملوا أوزارها. ألم يمنع ذلك تراكم الخبرات السياسية للناس ما يجعلهم مثل طفل يدخل إلى حلبة مصارعة.
هكذا مع غياب المشاركة السياسية الفاعلة من خلال الأحزاب اختل توازن الدولة، وانقسم المجتمع أفقيا وعمودياً، كلٌّ يغني على ليلاه، ويصيح مطالباً بالامتيازات حتى إذا ما حققها، وقف في الجانب الآخر مع المنتفعين وأصحاب المصالح ليطالب الناس بالصبر حتى تزول الغمَّة، وينفرج الكرب! وكيف ينفرج الكرب في دولة تبني بعض مؤسساتها وتهدم أخرى؛ ولسان حالها مثل سيارة تعمل بالوقود فقدت نظام التبريد الخاص بها، فإذا ما ارتفعت حرارتها حرقت نفسها، وحرقت ركّابها.
الدولة الحديثة نظام يعمل في حال توفر كل مكوناته، فإذا ما اختل جزء منه تحول إلى نظام يأكل مكوناته: سيأخذ كثير من الناس عقاقير دوائية لمعالجة فقر الدم وسوء التغذية الذي يحتاج أصلاً إلى غذاء وليس دواء. سيجتمع في الغرفة الصفية معلم جائع وطلاب جياع. وسوف تصبح المهنة الفضلى في المجتمع مهنة نصّاب بتشديد الصاد، لأنَّ الكفاءة لا تطعم خبزاً، ولا تضمن مشاركة في السلطة أو الثروة، ولا تحقق مواطنة كاملة، فقرابتك من الدرجة الثانية من شخصٍ ضليع في السلطة قد تنفعك أكثر من عبقرية أينشتاين.
ها قد اتسعت فئات الشعب الجائعة، وها هي الحكومات تستمر في سياساتها الانتقائية والمزاجية لأنَّ السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ولأنَّ تعطيل حق الناس في المشاركة السياسية والذي احتاج إلى عقود من التجهيل والتخريب أنتج عطباً يحتاج إلى أضعاف الجهد والمدة لإصلاحه، ولأن إقناع غبيٍّ بأنه غبيّ، وأنه وصل إلى موقع لا يستحقه، وأنه باستمراره يشكل خطراً على مستقبل الأمة وعلى نفسه أيضا – لأن إقناع هذا الغبيّ بالانسحاب يحتاج إلى نصف عقلاء العالم وربما أكثر.
ضمن هذا الواقع يتفجر الكثير من الأسئلة:
كيف يمكن إقناع شخص بشدِّ الحزام على بطنه، والعيش تحت خط الفقر وهو يرى يومياً صوراً عن كتب رسمية لموظفين حكوميين يأخذون رواتب خيالية، ويرى مظاهر البذخ والإنفاق في بعض مؤسسات القطاع العام.
وما الذي يستدعي التفاوت الشديد في الرواتب من وزارة لوزارة ومن مؤسسة حكومية لأخرى، وخاصة فيما يتعلق بأولئك المحاسيب الذين يعملون بعقود.
ما الذي يستدعي منح الوزراء والنواب رواتب تقاعدية ضمن قوانين خاصة ودون استكمال الشروط العادية للعمل؟
ما الذي يستدعي أن يعمل وزير متقاعد بوظيفة حكومية يبلغ راتبها عشرين ضعف راتب معلم خبير مع احتفاظه بتقاعده كوزير سابق؟
ما الذي يستدعي تعيين طبيب وزيراً للتربية مع وجود ما يزيد على مائة ألف معلم.
الكثير من الأسئلة برسم الإجابة، وربما تبقى دون إجابة إلى أن يتم إصلاح نظام التبريد في السيارة، وتنطلق من جديد.
الأحزاب السياسية صوت المجتمعات وممثلها الغائب
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين