تعد الكتاتيب في توات، رافدا مهما من راوفد العلم والمعرفة والأخلاق، لذا نجد ساكنة المنطقة قد دأبوا على إلحاق أبنائهم بها، ليُنبتوهم نباتا حسنا قويما، ويتعهدوا كتابا الله حفظا وتدبرا، عطفا على علوم الدين وماجاورها من النحو والمتون، ومع مرور الزمن وما شهده من تطور في مختلف المجالات، طرأ عليها بعض التغيير الإيجابي في برنامجها التعليمي، هذا مع الحفاظ على الأصول والثوابت المتعارف عليها، كالاعتماد على  التلقين واللوح والدواة وملازمة الحزب الراتب، وتدريس متن بن عاشر في الفقه، والأجرومية والألفية في النحو.

وبعد جولة في بعض المدارس القرآنية في وسط مدينة أدرار، لفت انتباهي بعض منها، من حيث برامج متنوعة هادفة، ونشاطات محمودة كسرت الروتين عن تلاميذها وحفزتهم للأفضل، من بينها المدرسة الونقالية بقصر أولاد اونقال الكائنة وسط مدينة، والتي يرجع تأسيسها لسنة1957م من القرن الماضي على يد فضيلة الشيخ الحاج عبد الكريم محجوبي التمنطيطي (1928م_2012م) خريج مدرسة العلامة أحمد ديدي دفين تمنطيط(1879م-1951م) فحفظ القرآن الكريم فيها باكرا، ودرس الفقه والنحو وغيرها من العلوم الشرعية المتداولة في الكتاتيب آنذاك، ولما بلغ أشده شَدَّ الرحال طالبا للرزق، وهذا عائد لقلة اليد والقحط الذي كانت تعيشه المنطقة في ذلك الوقت، فانتقل -رحمه الله-  إلى قرية بني ونيف الوقعة بولاية بشار حيث عمل فيها فلاحا، وبعدها إلى سعيدة ومعسكر مرورا بعين الصفرة ومستغانم وصولا إلى وهران سنة1952م كعامل بأحد الشركات المختصة في تهيئة الطرقات، ثم غادرها قاصدا المشرية معلما للقرآن في إحدى كتاتيبها بطلب من بعض أبناء أدرار ممن لقيهم بوهران، فلبث ردحا من الزمن وطاب له المقام فيها،ثم رجع لمسقط رأسه ليَتم شطر دينه فكان له ما أراد، ولم يغادر أدرار بعدها طاعة لوالده، ثم إنه عاد ليشتغل بأمور الفلاحة والسقي في بستان بعض ساكنة قصر أولاد اونقال، وكان يتردد حينها على الحزب الراتب بمسجد حي الأمير عبد القادر المعروف محليا (بفيلاج نيقرو) وهناك جمعه الله بإمام المسجد الطالب عبد القادر المطارفي، ولم عَلم هذا الأخير بحفظ الشيخ للقرآن كريم، عرض عليه التدريس أبناء القصر لحاتجهم لمعلم قرآن وقتذاك، وبعد مشورة مع والده وبعض الأعيان، وافق رحمه الله فأسس مدرسته العامرة بتاريخ 1957م، فوضع أولى ركائزها وأسس بنيانها على تقوى من الله ورضوان، وهناك تفرغ كليا للعلم وتدريس القرآن الكريم، والمتون على غرار بني عاشر وهدية الألباب، الأوجلي، أسهل المسالك، العبقري، الأخضري وغيرها، كما أنه كان من الملازمين الحريصين على دروس العالم الرباني الشيخ سيدي محمد بالكبير -طيب الله ثراه(1911م-2000 م) فكان لا يفارق مجلسه إلا لعذر، وفي سنة 2011م أحيل إلى التقاعد بعد 55 سنة قضاها  معلما ومربيا، وقد أقيم على شرف تقاعده حفلا تكريميا بهيجا حضره نخبة من الشيوخ والأئمة والمسئولين تقديرا لجهدٍ متفانٍ لايجازيه عنه إلا العزيز الكريم، وبعدها بسنة اختاره الله إلى جواره في 22 من أفريل 2012م بمنزله، وشيعت جنازته  بمقبرة أولاد اونقال في جو مهيب وحضور غفير، والجدير بالذكر أن الشيخ كان من المحبين المتشوقين للبيت الحرام، حيث حج ثلاثة عشر مرة وعمرة واحدة، وكانت أول حجة له سنة 1972م و آخرها سنة 2003م، فرحمة الله عليه. كما تخرج على يديه حظ وافر  من الأساتذة والأئمة المنتشرين في ربوع الجزائر ومن بينهم ذِكْراً لاحصراَ  بوشنتوف مولاي قاسم (مفتش مديرية الشؤون الدينية بأدرار)، وكذا لكال رمضان (إمام بولاية تلمسان)، زجناوي سليمان (إمام بولاية بجاية) وغيرهم كثير.

واليوم يقوم على المدرسة الإمام الشاب  الهُمَام (العربي حيح) ومن  معه من حَملة رسالة شيخهم المرحوم، حيث يشرفون على   310تلاميذ، ذكورا وإناثا، مسطرين لهم برنامجا سنويا علميا متنوعا ومرنا، يجمع بين المتعة والتحفيز، يتجلى في مايلي:

- الاحتفال بخاتمي كتاب الله مع إحياء الذكرى السنوية لوفاة الشيخ الحاج عبد الكريم محجوبي الموافق ل22 فيفري من كل سنة.

- برمجة رحلات علمية لفائدة الطلبة، لمختلف الزوايا القرآنية المتواجدة بالمنطقة، غرضها التعرف على العلماء وطُرُق التدريس المعتمدة هناك.

- أقامة حفل افتتاح الموسم الصيفي،تحت عنوان (خـادم القرآن) يحتفى فيه بالتلاميذ الجدد رفقة أوليائهم، يرتدون فيه قميصا محليا جديدا، يتم فيها كتابة ألواحهم من طرف كوكبة من الأئمة على وقع قصيد البردة وهدية الألباب.

- استحداث نادٍ علمي تابع للمسجد، تحت إشراف الشيخ، وهو فضاء ترفيهي تعليمي أنشأ من طرف الطلبة، يضم مكتبة بها أزيد من ألْفَي كتاب،  وثمان أجهزة كومبيوتر ومكبر صوت  مخصص للتجويد وفنون القراءة والمقامات الصوتية ، كما أنه يقدم مجموعة من حصص الدعم في اللغات الأجنبية والرياضيات والنحو لتلاميذ الأقسام النهائية، هذا بمساهمة مجموعة من جمعيات القصر الفاعلة على غرار جمعية  أجيال الغد وجمعية البراق الثقافية، جمعية حواء للخير والإرشاد وجمعية الأمل.

ومن أراد الإطلاع عن القرب والتعرف أكثر، فأبواب المدرسة مفتوحة للجميع. فهي أشهر من نار على عَلم.

بقلم: مبروكي محمد