وقفات حول قوله تعالى(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)[البقرة:252]

3

وكون آياته تعالى متلوة( بالحق). فذلكم اليقين عند التنزيل وهو الحق أمام التأويل أن ما يكون من الله تعالى ربنا هو الحق عينه فلا يلحقه ما يلحق ميزان الأغيار من إضافات ولا يشوبه ما يشوب حكم غيره من اختلافات ولا يتضمن ما يتضمنه كلام غيره من تغييرات ولا يسوؤه ما يسوء بيان غيره من التباسات ولا يحيطه ما يحيط أمر غيره من إشكالات. فهو الحق المبين في ذاته البين في دلالاته لأنه من لدن حكيم خبير!

ومنه نفيد ثقة مطلقة في كل ما أتانا من الله تعالى أنه الحق ولاحق غيره فتغمرنا طاقة المسارعة إلى الانقياد ودافعة الهرولة إلى الامتثال وآصرة الخضوع والطاعة عن محبة ورضا وقبول.

وكونه(بالحق) دافع للأمم أن تدفع عن نفسها الباطل وأن ترد عن دينها العدوان وان تجاهد عدو الله وعدوها إعزازا للديانة ونصرا للملة وحفظا للدياروإكراما للأوطان.

وكونه بالحق يورث الطمأنينة لسلامة القصد وسمو الهدف مما يكون عاملا طيبا في إعداد النفوس وتعبئة الجند إلى محبة الجهاد وإلى تفضيل القتال كيما تنال الظفر أو شرف المنزلة بالشهادة في سبيل الله وهما الحسنيان وكفى بهما تسمية من الله تعالى.ألم تر أن الله تعالى قال(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْ)[التوبة:52].

وكونه بالحق دليل صدق القائد في نقل وإبلاغ ما توجه إليه من قرار أو أصدر إليه من تعليمات. فكلها يبلغها ولا يستأثرن بشيئ منها أبدا ألبته. لأن كون الرسول مختارا لتحمل أعباء الرسالة وتكاليفها فإنما كان البلاغ أول درجاتها. قال الله تعالى :( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[المائدة:67]. 

وكذا فإنه ملابس لليقين بلا ريب أبدا.

 والحق هو شرعه تعالى لا شرع من سواه. فكما أن ما جاء من الله تعالى هو الحق فكذلكم ما يشرعه غيره هو الباطل فيما يدخل في دوائر التحليل والتحريم. ذلك لأن الله تعالى قال:( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير)[الملك:14]. 

ودليل صدقه واتباعه أنه حكى هذه الآيات وأخبر عن تلكم القصص وكأنها كانت مشاهدة عنده. ومنه نفيد الدقة المطلقة في الاتباع والتناهي في العبودية.

 وكونه بالحق ينفي عنه زعمهم كونه ساحرأو مجنون. ويثبت كونه رسولا نبيا.

وكونه بالحق فيه إشعار بانتفاض أهله لمواجهة الباطل وأهله فلا يعتورهم تخاذل ولا يفت في عضدهم وهن. كيما ينصروه وكيفما حفظوه نكاية في عدو الله تعالى وعدوهم. 

ومنه كان لزاما على الأمة أن تنهض بصناعاتها فلا تركن إلى غيرها ولا يذلها عدوها. فيورد إليها سلاحا قديما أو يفرض عليها شرطا أليما. فيكون وكأنه وعدمه سواء بسواء. فكان أشبه بالتسلية وأقرب إلى التخلية!.

وكونه بالحق فيه شرط ألا يتولى زمام أمتنا إلا عن قدارة واقتدار لا عن جهالة واستهتار فيكون ذا قوة ذاتية ومكتسبة معا. كما يكون ذا علم وتدبير فلا إسراف ولا تقتير. قال الله تعالى :( فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)[لشعراء 150-152].

وكونه بالحق فيه تعريض لما عليه القوم – بنو إسرائيل – من الباطل. قال الله تعالى :( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[النمل :76].

وكونه بالحق أوجب على أهله دعاء الله تعالى تثبيتا عليه كركن شديد يستوفون منه عونهم ويستمدون منه قوتهم.

 وكونه بالحق أوجد بأمر الله تعالى ربنا الرحمن سنة التدافع وفريضة الجهاد إذ به ينكشف الغطاء ويزول الستار. قال الله تعالى :( فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين) [ البقرة: 251]. وقال تعالى:( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز). [ الحج:40].

وكونه بالحق فيه تحفيز للجنود وشحذ لهممهم. إذ القتال قتال فالأمر جد لا هزل فيه ووعد لا خلف له. قال الله تعالى(قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[البقرة 246].

وكونه بالحق فيه استيثاق القائد من صدق عزائم المجاهدين ألا ينكصوا وألا يحيدوا وألا يتزعزوا. فلا يتسرب إليهم فتور ولا يتملكهم خور. قال الله تعالى(. . . قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا. . . )[ البقرة:246].

واستيثاقهم دائما واجب فيمكن أن ينشطوا حينا ويجوز أن يخملوا حينا آخر. وهذا الاستيثاق وتلك المتابعة للجماعة المسلمة والمجاهدة منها بوجه أخص قائمان على أسس تقواها ومتابعتها لشرع مولاها. كيلا تحيد عن الجادة ولا تصرفها بواعث المادة. ألم ترأنهم قالوا:( قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا. . .) ثم قال تعالى:( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[ البقرة:246].

وكونه بالحق يوجب أن يكون القتال في سبيل الله ولو كان الباعث على ذلك الإخراج من الديار أو الأبناء. قال الله تعالى(قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[ البقرة:246].وكذا ؛لاعتبارات الضرورات الخمس التي بها يكون حفظ الدين وهي:( الدين والنفس والعرض والمال والعقل).

وكونه بالحق يشي بضرورة إزاحة المبطلين عن قيادة المؤمنين بكل سبيل ممكن وبكل وسيلة متاحة ضمن حدود شرعنا ونظام ديننا. وإزاحتهم تلك نابعة من أصل الشرع الحكيم. إذ قال الله تعالى:(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)[ التوبة:29]. وقال الله تعالى :(وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [ البقرة :190]. وقال الله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)[ البقرة :191]. وقتالهم كذلكم نابع من كونهم استأثروا بملكنا دون أهلية لذلكم ملك من قوة عاتية أو علم فياض! وقياسهم في ذلك غير بعيد عن قياس أسلافهم الذين خلوا من قبل كما قال الله تعالى :(قالوا أنى يكون له الملك علينا ولم يؤت سعة من المال)[البقرة :247]!

وكونه بالحق يقتضي الوقوف على اختيار الله تعالى بلا مماحكة أو مماطلة. فذلك ينبئ عن سذاجة تفكير وبلادة تصور.

وكونه بالحق دال على صدق الدعاء لدى مجابهة الأعداء. فالله تعالى في عقد كل مؤمن هو الناصر المعين(وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)[آل عمران: 126]. وما هذه الأسباب إلا ابتلاءات من الله تعالى لعباده ألا يتكلوا تارة وألا يتواكلوا تارة أخرى. قال الله تعالى :(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)[ البقرة :250].

وكونه بالحق يوجب إسناد النجاح في أداء المهمات الى أهله ابتداء مع تقديم مشيئته تعالى في كل حال. وفيه تشجيع للمستخدمين وجبر خواطرهم وشحذ هممهم كيما يتعودوا الفناء والإخلاص والتفاني والشجاعة والإقدام.

لأن اختيار الله تعالى كان وحده كافيا لانقياد القوم. فيكون لهم آنئذ فضل المسارعة إلى الطاعة وجزاء المبادرة إلى الانقياد فحازوا بذلك ثواب السمع ونالوا مكافأة الطاعة وسبق فضيلة الإذعان ونيل رفعة درجة العبودية.

وكونه بالحق ألا يكون القتال معتبرا إلا إذا كان في سبيل الله تعالى ولا يكون في سبيل الله إلا إذا كان قائما على كون أن تكون كلمة الله تعالى هي العليا. قال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. ( البخاري: باب ن قاتل لتكون كمة الله هي العليا، حديث رقم2655).

 .