إن الأمة العربية لم تفقد جمال عبدالناصر،  بل إن جمال عبدالناصر هو الذي فقد الزخم الشعبي العربي ، ذلك الزخم الذي حمل على اكتافه أهم مشروع في تاريخ العرب الحديث.

نعم ، إن عبدالناصر لا يزال حاضرا ، و بقوة ، لم نفقده لحظة واحدة :

انه حاضر لأن أسباب ولادة المشروع الناصري لا تزال حاضرة و بشكل أكثر حدة و عنفا ، لا يزال الاستعمار الغربي معربدا ، أساطيله تلوث المياه العربية ، جنوده تدنس أشرف البقع العربية ، رجاله يخترقون العقول و المؤسسات و البيوت العربية ... 

الاستعمار موجود بكثافة ، و كذلك أذنابه و صنائعه   و كذلك التخلف ، و الفساد و الاستغلال و الاستعباد للبشر ، كلها موجودة حاضرة خانقة ، تفسد الحياة العربية ، لذلك   لا يزال عبدالناصر حاضرا  .

و لم نفقد جمال عبدالناصر ، لأن النضال العربي لم يتوقف بوفاة عبدالناصر ، لا تزال شعلته متقدة في لبنان و فلسطين ، في العراق و في الجزائر ، في شوارع القاهرة و الخرطوم .. لا تزال الحرب سجال ، بيننا و بين كل المنخرطين في محاولة قتل هذه الأمة .

اننا لم نفقد عبدالناصر ، لأن الأسباب و الأهداف و الآمال التي جسدها عبدالناصر لا تزال قائمة و بشكل أكثر حدة .

لكن عبدالناصر ، ممثلا  بالمشروع العروبي الوحدوي التقدمي  ، فقد الأمة العربية ، كزخم شعبي نضالي شامل ، فهذا الزخم الذي صنعته مصيبة النكبة هو الذي حمل المشروع العربي النهضوي على اكتافه ممثلا بعبدالناصر ، فخاض بهذا الزخم ثورة ضد الملكية ، و خاض مفاوضات الجلاء ، و أسقط حلف بغداد ، و أمم قناة السويس ، و صد العدوان الثلاثي على مصر ، هذا الزخم هو الذي حقق كل الانجازات العربيةالمهمة في الخمسينيات ... هذا الزخم فقده المشروع العروبي ، و كانت هزيمة يونيو  - بالإضافة الى أخطاء ارتكبها عبدالناصر و غيره - ضربة قوية لهذا المد الشعبي .. و لكن الجماهير - بعفوية و بوعي فطري - حملت عبدالناصر الى قمة الهرم بعد تنحيه ، مدركة أنه الأمل الوحيد في تلك البيئة التي بدأت تتعفن ... فخطط و نفذ حرب الاستنزاف ، ثم رحل فجأة ، و تمت أركان الانقلاب على مشروعه ، و ساهمت السعودية و غيرها في تزوير الحقبة الناصرية ، و في تشويه و تزييف الوعي ، مستغلة أموال النفط العربية ، استغلت أموال العرب في ضرب الفكر و النضال العروبي ، لصالح مشروع رجعي مشبوه ، ظل يتدحرج ككرة الثلج حتى بعنا فلسطين ، التي كانت نكبتها الشرارة التي ألهبت المشاعر العربية ، فلننهي القضية الفلسطينية إذن ، و لنرتااااح من العرب و العروبة و العروبيين ... تدمير ممنهج للفكر و الثقافة و العمل النهضوي المستنير استعملت فيه كل الأسلحة : الاموال ، الرجال ، الاعلام ... 

لذلك أقول : مات عبد الناصر و لكننا لم نفقده

لكن عبدالناصر فقد الأمة العربية كزخم شعبي نضالي واسع،  و واع بأسباب الانحطاط ، و وسائل النهوض ، زخم بوصلته القدس ، بدايته في بغداد و نهايته في المغرب ، زخم لا ينشغل بمعارك جانبية تستنزف قواه ، بل يوجه كل طاقاته لتناقضنا الأساسي مع الاستعمار و أذنابه ، مع التخلف و الفساد ..