اختلف المفكرون والفلاسفة وأصحاب الرأي أيما اختلاف في بيان وتعريف المثقف والثقافة وفقا لاختلاف معارفهم واتساع مداركهم وزوايا نظرهم ، وقد تردد في بعض الكتابات أنها بلغت أكثر من مائة بيان وتعريف ، ولسنا نطمع في مقالنا المتواضع هذا بسرد أوجه ذلك الاختلاف (كليا) أو بالقضاء عليه (توفيقيا ) أو دحض وتفنيد أسبابه ، بل جل ما نرجوه هو أن نوفق في تبسيط مفهومه و تبديد ضباب لفه وإلقاء مزيد من النور عليه وهذا حسبنا ...!!
يقول العلامة الدكتور محمد عابد الجابري في تعريف المثقف : ( المثقف هو شخص يفكر ، بصورة أو بأخرى ، مباشرة أو لا مباشرة ، انطلاقا من تفكير مثقف سابق ، يستوحيه ، يسير على منواله ، يكرره ، يعارضه ، يتجاوزه .. الخ
فليس هناك مثقف يفكر من الصفر ) ويقول أيضا : ( إن المثقف في جوهره ناقد اجتماعي ، إنه الشخص الذي همه أن يحدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل ، نظام أكثر إنسانية وأكثر عقلانية ) .
ويقول المفكر والكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في تعريف المثقف: ( هو الإنسان الذي يستطيع أن يكوّن لنفسه رؤية وموقف من الإنسان بالدرجة الأولى ، ومن المجتمع بالدرجة الثانية ، ومن الطبيعة والكون بالدرجة الثالثة ، وانه يستطيع أن يعبر عن هذه الرؤية وهذا الموقف برموز الكلمات والألوان والأصوات ) .
ويعرف الكاتب والأكاديمي و المفكر زكي نجيب محمود المثقف بقوله : ( هو شخص يحمل في ذهنه أفكارا، من إبداعه هو أو من إبداع سواه ، و يعتقد بأن تلك الأفكار جديرة بأن تجد طريقها إلى التطبيق في حياة الناس، فيكرس جهده لتحقيق هذا الأمل ) ومرة ثانية بقوله : ( هو مروج للقيم العليا ، أخلاقية أو جمالية كانت ) ومرة ثالثة بقوله : ( هو شخص يتميز بربطه بين الماضي والحاضر ) ومرة رابعة بقوله ( هو شخص يختزل حقيقة الإنسان وحقيقة الكون في صيغة محكمة مترابطة ) ومرة خامسة بقوله : ( هو شخص متميز عن عامة الناس ، وتميزه يتجلى في قدرته على إدراك الفوارق الدقيقة الكائنة بين ظلال الفكرة الواحدة ) .
وإن كنا لا نجد في ما سبق كل ما نرجو ونعتقد رغم صحته فإن المثقف بنظرنا هو فضلا عن ذلك : شخص منتج للأفكار بالأساس ، شخص واع ، تنويري ، تجديدي ، إصلاحي ، مطّلع و متجدد معرفيا ، يستمد قيمته ومكانته من قيمة ما يقدمه أو ينتجه من أفكار، شخص يتعهد عقله بالعناية والتهذيب والتطوير من خلال القراءة والبحث والتأمل والمقارنة والتحليل وصولا لمرحلة النقد العميق الواعي لمعطيات الواقع الذي يعيش أو للتاريخ الذي يقرأ ما أمكن ذلك ، وهو صاحب سلوك فاضل ، لا يناقض سلوكه ما ينادي أو يبشر به ( يعني بالمختصر هو من هذه الناحية قدوة حسنة للآخرين في سلوكه ومعاملاته ) وهو بذلك ليس مجرد متعلم أو حامل للشهادات العلمية مهما علت ...!!!، وهو إنسان غير متعصب يؤمن بالحرية ويقدسها وبالتنوع والرأي و الرأي الآخر المخالف أو المختلف ، وهو يتفهم الاختلاف ويغض الطرف عنه ولا يقيم لصاحبه محكمة ، لذلك لا يمكنه أبدا بنظرنا أن يمارس وظيفة المفتي الديني ( التحليل والتحريم ) !! وهو يعرف جيدا الفرق بين الخطأ والفشل ، لأنه يدرك أن خطأه كان نتيجة اجتهاد غير صحيح وليس فشل ذاتي وان أمامه فرصة أخرى للنهوض والنجاح من جديد ، وهو يقرأ بوعي ويهضم ما يقرأ جيدا أكثر مما يقول و يكتب ، وهو يجيد الاستماع أكثر مما يجيد التكلم ، و يجيد الدفاع عن أفكاره أكثر من إجادته الهجوم على أفكار الآخرين ، وكلما زادت ثقافته ونمت زادت مناعته الفكرية وقدرته على إقناع الآخرين بما يعتنق من مبادئ أو أفكار دون أن يشعروا بذلك ، وهو يصمت عندما تعلو اصوات الجهال لأنهم لن يستمعوا له بوعي ، ويتكلم عندما يستنزفوا طاقاتهم السلبية في اللغو ليكون لديهم عندئذ قابلية لفهم وإدراك ما سينطق به أو ما يقوله ...!!
واعتمادا على كل ما سبق فهو يقدم للناس الحقيقة كما هي رغم أنها قد تكون صادمة أو بشعة ، و هو منحاز دائما للمسحوقين والمظلومين والبسطاء مدافع عنهم وعن أحلامهم لأنه محاميهم المجاني ولأنهم بحاجة إليه وهو لا يمكن أن يكون منافق أو وصولي أو تخديري وإلا فقد صفته وسقط على الفور ...!!
وكما اختلف المفكرون والفلاسفة وأصحاب الرأي في بيان وتعريف المثقف فقد اختلفوا أيضا في الوقوف على أو بيان ماهية الثقافة باعتبارها المجال الحيوي الذي يتجلى فيه فعل وتأثير المثقف ،
قال العالم الكبير آينشتاين في تعريف الثقافة : ( هي أن تعرف شيئا عن كل شيء )
وقال المستشرق الفرنسي هنري لاوست في تعريف الثقافة : ( الثقافة هي مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون منها مبدأ خلقي لأمة ما ويؤمن أصحابها بصحتها وتنشأ منها عقلية خاصة بتلك الأمة تمتاز عن سواها )
أما المفكر آرنست باركر فقال : ( الثقافة ذخيرة مشتركة لأمة من الأمم تجمعت لها وانتقلت من جيل إلى جيل خلال تاريخ طويل ، وتغلب عليها بوجه عام عقيدة دينية ، هي جزء من تلك الذخيرة المشتركة من الأفكار والمشاعر واللغة )
وقال المفكر والعالم الإنجليزي ادوارد تايلور : ( الثقافة هي الكل الديناميكي المعقد الذي يشتمل على المعارف و الفنون والمعتقدات والقوانين والأخلاق والفلسفة والأديان والعادات والتقاليد التي اكتسبها الإنسان من مجتمعه بوصفه عضوا فيه )
وقال المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي في تعريفه للثقافة : ( هي مجموعة الصفات الخُلُقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته ، وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه )
و قال الفيلسوف الكبير الدكتور زكي نجيب محمود في تعريف فريد مميز للثقافة :( هي حالة توجه الإنسان في اتجاه سيره ، وفي ردود أفعاله ، وليست محصولا من معارف ومعلومات في حد ذاتها ، بل هي الزهرة التي تنبتها تلك المعلومات والمعارف )
ويمكن استخدام كلمة ثقافة في التعبير عن أحد المعاني الثلاثة الأساسية التالية :
1- التذوق المتميز للفنون الجميلة والعلوم الإنسانية ، وهو ما يعرف أيضا بالثقافة عالية المستوى .
2- نمط متكامل من المعرفة البشرية ، والاعتقاد ، والسلوك الذي يعتمد على القدرة على التفكير الرمزي والتعلم الاجتماعي .
3- مجموعة من الاتجاهات المشتركة والقيم والأهداف والممارسات التي تميز مؤسسة أو منظمة أو جماعة ما .
و الغالب برأينا أن للثقافة من حيث التعريف مدلولين :
1- مدلول فكري جمعي عام : بحسبه فالثقافة هي عبارة عن خليط معقد - متجانس نوعا ما - من الأعراف والتقاليد والعادات والعقائد والقوانين والفنون والتاريخ والقيم الموروثة والاهتمامات والاتجاهات العقلية السائدة في زمن ما أو في مجتمع من المجتمعات ؛ وهي بذلك طرائق تفكير وأنماط سلوك موروثة ومكتسبة من البيئة دون وعي أو قصد ، فالناس يتشربون ثقافة أهلهم ومجتمعهم مثلما يتشربون لغتهم الأم ويحكمون على كل شيء وفق المعايير السائدة التي امتصوها امتصاصا تلقائيا وامتزجت بعقولهم ووجدانهم فهي تحركهم لا شعوريا وإن كانوا يتوهمون أنهم يفعلون ذلك بحر اختيارهم ومحض إرادتهم ، ويجهلون أن مصدر ثقافتهم بالأساس هو برمجة راسخة سابقة انطبعت عقولهم عليها دون أدنى ارتياب أو مراجعة ، وهذه هي ما اصطلح على تسميتها ( الثقافة المجتمعية ) .
2- مدلول فكري فردي خاص : بحسبه يمكن أن نقول عن الثقافة في صورتها الفردية ( المتميزة غالبا ) ، هي حب الإطلاع والمعرفة الواسعة الواعية غير المتخصصة في الغالب ، التي قد تحول صاحبها ( المثقف ) حينا لإصلاحي مجدد ناقد لعادات وتقاليد وأعراف وقيم بالية قد تكون منتشرة أو متجذرة في وسط اجتماعي نشأ به مرغما أو انتمى إليه ، و حينا آخر إلى ناقد ثائر متمرد ساخط على أحوال سياسية أو معيشية سيئة مفروضة ، وفقا لحجم التطور النقدي الواعي المتولد عنده ، خاصة في مجتمعات متخلفة تحكمها سلطات مستبدة كمجتمعاتنا العربية .
المثقف والثقافة
تدوينات اخرى للكاتب
دين محرف ، دين مختطف , دين منزوع الدسم !!
واهم وجاهل من يعتقد أن الإسلام كدين سلم من التحريف والتبديل والدس والوضع ومن الخطف والاستغلال والإخفاء ونقصد بذلك كتمان بعض النصوص الدينية ك...
نصار محمد جرادة
الاحتلال العثماني وكذبة الخلافة
منذ منتصف القرن الثامن عشر انطلقت في بريطانيا ثورة صناعية أدت...
نصار محمد جرادة
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين