بقلم: علي طه النوباني
تواصلت قبل فترة مع سيدة غير عاملة وغير متعلمة توفي زوجها، وتركها وحيدة دون أي دخل. علمت أن زوجها كان يحصل دخله يوما بيوم، ولم يترك لها سوى شقة صغيرة في عمارة يتشارك فيها الكثير من الورثة الذين يحتاجون إلى سنوات لكي يقتسموا الميراث. ذهبت إلى صندوق المعونة الوطنية لكي يقدموا لها معونة شهرية بسيطة، وبعد مراجعات عديدة اكتشف البيروقراطي العتيد أنَّ السيدة لديها شقة ولا يجوز لها أن تحصل على معونة.
عشرات الآلاف من الحالات المشابهة، وعشرات الآلاف من العاطلين عن العمل، ومئات الآلاف من المتقاعدين الذين ابتلع التضخم مداخيلهم حتى أنها تكاد لا تغطي فواتير الماء والكهرباء والخبز. وبالمقابل تتقاسم النخب الحاكمة والبيروقراطية الحكومية دون تساو كل شيء في دولة ليس لها من صفات الدولة الحديثة سوى كلاشيهات شكلية، وهياكل مزيفة يحسبها الظمآن ماء حتى إذا جاءها لم يجد سوى الخيبة والهمِّ الثقيل.
من في هذه الفوضى يتحدث جاداً عن العدالة الاجتماعية ويناضل من أجلها؟
هل هي الحكومات التي تحولت إلى فقاسات للفساد والمحسوبية والصفقات المشبوهة والتسويات الخارجة على القانون وحتى على المنطق حتى أضاعت كلَّ الفرص، وحولت كلَّ باب للتنمية إلى مفرخة للتخلف والظلام.
هل هي الأحزاب السياسية التي رضيت أن تكون تكملة تافهة لمتطلبات الكذب والتزوير ضمن أنظمة لا تقبل الخلاف ولا الاختلاف وتدس أصابعها السوداء في كل بؤرة ضوء حتى تطفئها، حتى أصبحت الأحزاب يسارها ويمينها تكملة ديكورية يتباهى بها الدكتاتور في أسفاره، ويتخلى عنها الجماهير بما اكتسبوه من خوف وطمع من التشكيلة الغرائبية لمجتمع الظلم واللاعدالة.
هل هي البيروقراطية الحكومية التي تحاول بشتى الطرق المشاركة في غنائم الفساد والمحسوبية والفوضى العارمة، وهي تعلم علم اليقين أنها - في غالبيتها- أعداد هائلة من القوى البشرية غير المنتجة تنام من الشهر إلى الشهر وتذوب في ماكينة الرجوع إلى الوراء والفشل المستحكم.
هل هي النقابات المهنية التي تحاول أن تمارس دورها بتحصيل الامتيازات لمنتسبيها مع تأكيدي على حقهم في ذلك، وتأكيدي أيضاً أن ذلك لن يشمل الناس الأقل حظاً والذين صاروا يمثلون السواد الأعظم لشعوبنا المقهورة في دول أطلقت على نفسها تسمية دولة على سبيل المجاز، فلا هي حققت دولة القانون التي يتساوى فيها الناس أمام عدالتها، ولا حققت الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية لمواطنيها، ولا أثبتت قدرتها على تنفيذ خطة وضعتها ولو لسنة واحدة، ولا استطاعت يوماً أن تفجر الطاقة المبدعة لأدمغة مواطنيها، ولا استطاعت أن تختار نخباً سياسية تمتاز بالحدِّ الأدنى من الأمانة والشرف، ولا ... ولا
من في هذه الفوضى يتحدث جاداً عن العدالة الاجتماعية ويناضل من أجلها؟
لقد وقع الملايين من شعوبنا العربية في خطأ فادح عندما ظنوا أنَّ خروج الاستعمار من بلادنا هو التحرر والاستقلال، لأنّ التحرر الحقيقي هو تشكيل العقل الجمعي للمجتمع المتضامن بما يحقق العدالة الاجتماعية في أفضل صورها الممكنة، وما تتضمنه من معاني تحرير القرار الوطني، وتكافؤ الفرص بين الأفراد، وضمان كرامة المواطنين، كل المواطنين، واحترام المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
هكذا.. وفقط هكذا نحصل على الحد الادنى من الانتماء الذي يضمن الحد الأدنى من الأنانية التي تصنع الفساد والغش واللامصداقية، وتشكل طبقة من الميكافيلليين الذين يدوسون أحلام الشعوب بأحذيتهم الملطخة، وتضع الأوباش في المقدمة، وذوى الرأي والفكر في المؤخرة.
هكذا... وفقط هكذا نحصل على حرّاس حقيقيين للبلاد يقفون في وجه سفلة البشر وقطاع الطرقات ومصاصي الدماء وشذاذ الآفاق الذين يكيلون اللكمات لنا كل يوم.
لا بدَّ في المرحلة القادمة أن تتبنى الشعوب كلها حقوق العاطلين عن العمل والأرامل واليتامى والمعدمين والفقراء، فإن لم يكن ذلك من أجل الإنسانية، فمن أجل صيانة ضمير المجتمع الذي يستطيع وحده أن يواجه الجشع والفساد والظلم، ويستطيع أيضا أن يشكل دولة القانون والعدالة الاجتماعية التي يمكن لها أن تسير في طريق التنمية وتحفظ حق الناس والأجيال القادمة.
العدالة الاجتماعية حقنا جميعاً بعد رحلة العذاب الطويلة التي خاضتها شعوبنا، وهي حكاية تتوافق مع كل الأيدولوجيات وتعبر المذاهب، وأعتقد أن وقت رفعها شعاراً ثورياً لشعوبنا العربية المقهورة قد جاء لتصنع لنا ضميراً جمعياً يحرسنا جميعاً، ويحرس بلادنا من سفلة الأرض وشذاذ الآفاق وآكلي لحوم البشر الذين خرجوا علينا من أبناء جلدتنا ليقوموا بدور خجل الاستعمار نفسه أن يقوم به.