كنت أستمع لندوة على إذاعة لندن عام 1990 تناقش سبب إنقسام المجتمعات العربية بين مؤيد و رافض للغزو العراقي لدولة الكويت في ذلك الوقت.
و كان المشاركون في تلك الندوة هم عدد من المختصين بالشؤون السياسية و أساتذة الجامعات الشهيرة.
تعددت الآراء و تباينت التحليلات بين إرجاع هذا الإنقسام لمستوى الحريات في كل بلد و بين طبيعة الأنظمة الحاكمة في كل قطر من الأقطار. و لكن في النهاية أتفق المشاركون في الندوة على نقطة هامة جرى التوقف عندها كثيراً و التوسع في مناقشتها و يمكن أن نلخصها بفكرة أنه: "طالما وجدت مجتمعات عربية غنية فكريا و علمياً بينما هي فقيرة مادياً، و مجتمعات أخرى فقيرة فكرياً و علمياً بينما هي غنية مادياً" فسيستمر الانقسام و الصراع و ربما يزداد ضراوة و شراسة ..
ثم كان التساؤل الأهم المبني على هذه النتيجة و هو:
إذاً كيف يمكن لنا أن نصنع توازناً بين هذين النقيضين ؟ أي كيف نجعل المجتمعات العربية تعيش في مستوى معيشي متقارب تكون نتيجته منع الصراعات فيما بينها مستقبلاً ؟
انقسم المتحدثون بين متبنٍ لرأي يقول برفع المستوى المعيشي للمجتمعات الفقيرة عن طريق تطوير الحريات السياسية و الاقتصادية و جلب الاستثمارات .. و رأي آخر يقول إن هذا الرأي ما هو إلا ضرب من المستحيلات. إذ كيف لنا أن نوجد تنمية تجعل دخل المواطن العراقي أو الجزائري أو السوداني أو المصري يماثل دخل المواطن الكويتي أو الأماراتي أو السعودي أو القطري ؟
و يقدمّ رأياً يقول: إن الأسهل و الخيار الاكثر منطقية و واقعية هو بجعل المواطن في الدول الغنية ( المقصود الخليجية) يعيش بمستوى معيشي يقترب من المصري و العراقي و الموريتاني !! و استمر النقاش الذي بقي عالقاً في ذهني كل هذه المدة بسبب عمقه العلمي و المنطقي و أهميته بالنسبة للعالم العربي.
و اليوم و بعد ما يقارب الثلاثين عاماً من تلك الندوة، ها نحن نرى أن الخيار الثاني أي (إفقار الدول الغنية) و الذي كان هو الخيار الأسهل و الأكثر منطقية كما أسلفنا .. قد تحقق في بعض البلدان الغنية و يكاد يتحقق في بعضها الآخر !
فمنذ تحرير الكويت قُدِّر لمنطقتنا أن تكون في عين كل العواصف التي ضربت المنطقة و خارجها بدءاً من حروب أفغانستان و الشيشان و البوسنة و مروراً بالعراق و سوريا و اليمن و غيرها العديد من الازمات و الملمات التي أنهكت مجتمعاتنا العربية مادياً و إنسانياً.
و بعد أن خمدت أو كادت أن تخمد تلك الازمات المدمرة، لا زلنا اليوم نعيش هذا الإنهاك و بضراوة أشد مع اختلاق مبررات جديدة تتمثل بالخطر القادم من شرق الخليج و حاجة التصدي له إلى جانب الإنهاك الجنوبي المستمر ..
فالإنفاق على مظلة الحماية الخارجية كفيل بجعل الدول "الفقيرة علمياً و فكرياً" كما وصفتها تلك الندوة فقيرة مادياً كذلك.
الشيء المخيف أكثر في مشروع إفقار المجتمعات العربية "الغنية'' هو أن المجتمعات التي كانت تعتبر فقيرة في ذلك الوقت لم تثبت أو تحافظ على مستوى فقرها الذي كان و إنما استمرت بالانحدار نحو مزيد من الفقر.
و هذا يقود إلى استمرارية الصراع بين المجتمعات التي أصبحت فقيرة و المجتمعات الأشد فقراً (صراع الطبقات)!
و هنا يحدثنا التاريخ و ينبؤنا علم الاجتماع أن أشد الصراعات ضراوة و شراسة هي التي تقع عادة حيثما يعم الفقر و يسود الجهل .
* عبيد الصنهات