استثمرت الدول المتقدمة طاقات المهاجرين وعملت على الإفادة من خبراتهم، إذ إن أولوياتها تنصرف إلى ما يمكِّن مجتمعاتها من التطور والتقدم، حتى وصل المهاجرون إلى مناصب عليا في هذه الدول، وشغلوا مراكز لاتخاذ القرار، في ظل ثقة الدول بقدراتهم وإمكانياتهم، وإتاحة الفرص لهم للعب أدوار مهمة في المجالات السياسية والعلمية.

وصل “نيكولا ساركوزي” المنحدر من أصول مجرية لأم يونانية، إلى رئاسة “فرنسا”، ونال وسام الشجاعة الحربية والملاحة الجوية، وأشهر أقواله “أريد أن أتحدث عن الهجرة دون أن أصنف عنصرياً”.

“أمريكا” أيضاً أخذت حصتها من قدرات المهاجرين، ومنحتهم فرصة الظهور والتفوق، وكانت “كوندوليزا رايس” أول أمريكية من أصول أفريقية تتولى وزارة الخارجية الأمريكية، وتصبح مستشارة الأمن القومي، وقد عانت من التمييز العنصري في صغرها، وترسخ هذا التمييز إلى مستويات غير مسبوقة عندما بلغت الثامنة، على إثر حادثة حفرت ألماً في ذاكرتها، حين كانت تجلس في الكنيسة التي يعمل فيها والدها قساً، فاهتز السقف فوق رأسها، ليتملكها الخوف، وخلال ثوانٍ تنفجر قنبلة زرعتها في الكنيسة جمعية أمريكية ترسخ لسيطرة البيض، ما أدى إلى مقتل أربع فتيات، كانت إحداهن صديقة “كوندوليزا رايس”، ما جعل المأساة حاضرة في مخيلتها.

“تشيكلوسوفاكيا” أيضاً صدرت للولايات المتحدة الأمريكية علماً في عالم السياسة، فـ”مادلين أولبرايت” شغلت منصب وزير الخارجية في “الولايات المتحدة الأمريكية”، وألفت في ذلك “مذكرات السيدة وزيرة الخارجية”، وتقول في خطاب العنصرية: “التحدي الذي نواجهه في عصرنا هو كيفية عدم تحول فخر الفرد بجماعته إلى كراهية الآخرين”.

وبالاتجاه نحو أفريقيا، شغل “باراك أوباما” من أصول كينية منصب رئيس “أمريكا”، وكان يقول “ينبغي على الأمريكيين أن يرفضوا اللغة التي تخرج من أفواه أي من القادة، والتي تغذي جواً من الخوف والكراهية، أو تطبيع المشاعر العنصرية”.

كما وصل “دونالد ترامب” من أصول ألمانية إلى رئاسة “الولايات المتحدة الأمريكية”، والمعروف بتصريحاته العنصرية حيال اللاجئين، وتشجيعه على الهجرة الانتقائية، باعتبار وجوب استقبال اللاجئين الذين يساهمون في تنمية الاقتصاد والمجتمع فقط، كما هاجم بشكل مباشر العضوات الأجنبيات في الكونغرس “رشيدة طليب، وأيان بريسلي” بقوله “أتين من بلاد تديرها حكومات كارثية تماماً، وأقترح أن يعدن من حيث أتين”.

بدورها ردت “إلهان عمر” أول نائبة أمريكية من أصول صومالية في الولايات المتحدة الأمريكية بقولها: “إنك تغذي القومية البيضاء”، وردت “بريسلي” أول أمريكية من أصول أفريقية في الكونغرس: “هكذا تبدو العنصرية”.

وحجز المهاجرون من أصول عربية مقاعد في السياسة الأمريكية، حيث وصلت “رشيدة طليب” من أصول فلسطينية إلى الكونغرس الأمريكي أيضاً، وواجهت مواقف ترامب العنصرية بشراسة.

ومن عمالقة المهاجرين “ستيف جوبز” صاحب شركة “آبل”، والذي يحمل الجنسية الأمريكية وهو من أصل سوري، ويرى البعض أنه ما كان ليحقق ما حققه لو بقي في مسقط رأسه، حيث يقال: “ليس من المبالغ القول إن هذا العبقري غير العالم”، وكان شعاره “التجديد هو ما يميز القائد على من يتبعه”.

كما تولى رئاسة الأرجنتين “كارلوس منعم” من أصل سوري، ورئاسة شكولومبيا “خوليو طربيه” من أصول لبنانية، والأوكوادور “جميل معوض” اللبناني الأصل، وفنزويلا “العيسمي” من أصول سورية، والبرازيل “ميشال تامر” المنحدر من أصول لبنانية.

فالمهاجرون عادة يصنعون فرقاً في المجتمعات، ويضعون بصمات تضفي على المجتمعات صبغة التنوع والتعدد التي تنهض بالمجتمع، “إذ يمتلك المهاجرون طموحات ودوافع لتحقيق أهدافهم، وإثبات وجودهم” حسب ابن خلدون، كما أنهم يتمتعون بانتماء للدول المضيفة، ويتبنون مواقفها ويدافعون عنها، إلا أن هذا المنظور يختلف حين نصل إلى حدود الشرق الأوسط، إذ يتخذ مفهوم الهجرة شكلاً سياسياً يعزل المهاجر عن الدولة المضيفة، مما يفقد الدول قدرتها على استثمار السكان الجدد وتفعيل خبراتهم في خدمة وتطوير المجتمع.