لا سمح الله، وأقصد أن أبدأ تدوينتي بهذه الكلمة كيلا يركب الشؤم أحد القراء فيظن أني أفتح عليه أبواب الخطايا التي لا حصرها لها! 

لا سمح الله، لو أنك جلست بين يدي محقق للإبلاغ عن جريمة حصلت في حقك، أو استُدعيت للشهادة عما حصل في حضورك، أو طُلب منك من  جهة ما حكومية أو أمنية أن تصف واقعة من أي نوع؛ فإنهم - في الغالب- لا يكتفون منك بسرد الواقعة مرة واحدة، بل تظل تعيد وتكرر ، وكأنك في كل مرة تستذكر ما حدث للمرة الأولى! وحينما يملّون هم من سماعك، وتكون أنت قد اختلطتَ من ضبط أقوالك، يقولون لك : شكرا ، إنك صادق ، ولم تختلف أقوالك في كل مرة أعدت فيها الحديث! 

هذا التعويل  على أن قبول الدعوى أو رفضها قائم على دقة السارد في السرد مهما تعددت مرات السرد، هي خدعة فكرية ونفسية ولكنها مؤثرة حتى تأليف الكتب! 

فعند إعادة إصدار كتاب ما، يتم الطلب من الكاتب أن يعيد تنقيح الكتاب، ولربما يزيد عليه أو ينقص، ولكن شريطة أن يظل محافظا على الخط العام للكتاب، بل وروح الكتابة ، تلك الروح التي كُتِب بها الكتاب أول مرة، فإلى أي درجة يكون الكاتب صادقا في الحفاظ على روحه الغابرة في كتابة جديد هذا الماضي؟! 

هل يفقد الكاتب نزاهته لو أذِن بإعادة نشر نصوصٍ تراجع - اليوم - عما فيها جملة وتفصيلا؟ أم هو برهان على أن الكتابة ضبط تطور الفكر، فلا بد أن تحمل شواهد تعثره كما تدلل على تخطيه لذاته أيضا؟ 

الكتابة في غير زمن الكتابة الأولى، معضلة تواجهنا نحن -تلاميذ الكتابة-كذلك! فكم من نصوص محفوظة في ملفات الحاسوب، أو بين دفاتر قديمة، كانت حافلة بمقدمات كتب، أو أنصاف آراء، أو جٌمَلا بالجملة ..انتظرت كي نكملها! إنه لمن الصعوبة بحال إعادة إحياء جو الكتابة الأول فينا، فثمة عوامل ساهمت في نشوئه لم تعد موجودة اللحظة، ولعل أهملها "نحن"! نعم ، نحن لم نعد نحن ، إذ بين زمني الكتابة وإعادة الكتابة، تبدل الحال والمقال، وغلبت اللامبالاة محل اليقين، وانتهت المسلّمات إلى تجارب واحتمالات جديدة. 

كم أترحم على تلك الكتابات منقوصة الخِلقة، وأشعر بالجريمة المكتملة تماما في حقها، كان لها أن تكون ولكني أوقفت نموها، بل لعلي كالفيروسات نموتُ عليها: على خرابها، على بعثرتها، على استنزاف أهليتها للحياة. 

ألا يمكن أن نخترع لونا جديدا للكتابة، يسمى "كتابة اللا-اكتمال"، يكون مقبولا فيه طباعة ونشر هذا المنتوج المسخ ،بل ويتشكّل حوله ذائقة من القراء القادرين على استحداث الأجزاء المفقودة بين الأفكار المتوقفة؟

حسنا، لا سمح الله، في المرة القادمة عندما تكتب شيئا، فلا تلق بالا لإكماله من عدمه، لأنك ستكمل ما يستمر، وستترك ما توقف الزمن عن الاستمرار فيه. فروح الكتابة هو  زمنها.