مدمن على القراءة مهتم بالتاريخ و الفكر عاشق للروايه و السير مشغول بسؤال النهضة محب لتراثنا و مؤمن بضرورة الانفتاح على الافق الانساني الارحب
ايها المسافر بلا توقف
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الخاطرة مهداة الى من الهمتني حياته كتابة هذه الخاطرة ... الى الدكتور محمود رؤوف السعدي :
ايها المسافر بلا توقف ، المنقب بلا سأم ، عن جديد يقتل السأم ...
ايها المسافر ، مُتعَبٌ أنت .. و مُـتعِب للسائرين على خطاك ؛ فأقدامهم ما اعتادت السفر كأقدامك ، أقدامك بلا شك مُتعَبَتان ، كأقدامهم و أكثر ، و لكن لك روح قلقة ، و نفس لوامة ، تأمرناك بالسعي فتسعى ، تسعى على الدوام ...
قلق أنت أيها المسافر ، قلقٌ على الدوام ، تتأرجح على ايقاع لعل و ربما و ماذا لو ... و و ، و ، على كل ادوات الشك ، و التمحيص ، و التدقيق ...
و مشتاقٌ أنت على الدوام ، و كيف لا يشتاق المسافر الى محطة للراحة ؟ كيف لا تهفو نفسه الى ظل شجرة ؟ و راحتك انت ايها المشتاق فكرة تسطع على مهل كنور الشمس بعد شتاء طويل ، الهام يبرق في تلافيف روحك بعد ليل بهيم ...
نور الفكرة ، و بريق الالهام ، شغفك على الدوام ، ينيران درب سفرك ، من نفسك يبزغان ، و لنفسك ينيران ، و لغيرك ينيران، كالشمس أنت ؛ يأكل بعضُكَ بعضَكَ ، يحرق بعضك بعضك ، تتفجر طاقاتك ، تتحرر ملكاتك ، تعطي نفسك للآخرين ؛ فتنمحهم النور و الدفء ....
كالرياح اللواقح أنت ؛ تنثر غبار اللقاح من مشرق عالمنا الى مغربه ، و كأن ارضا واحدة لا تحتمل ثقل رسالتك ؛ فتحمل متاعك القليل ، و رسالتك الثقيلة ، و ترحل من ارض الى ارض باحثا عن ارض طيبة خصبة ، كطيب رسالتك و خصبها ، فاذا ما وجدت الارض نثرت بذور لقاحك ...
آه ايها المسافر ، يا حامل بذور الخير ، آه كم يشقى أصحاب النفوس الكبيرة ، كم يتعذب المعتصمون بحبل مبادئهم ... آه كم بيضت من الليالي ، لتسود صفحة او صفحتين ، اه كم انحنى ظهرك على ارض بحثك ، لتستخرج برفق ، بدقة ، فكرة أو فكرتين . ثم انحنى ثانية ، و انحنى ثالثة ، و رابعة ، و كلما انحنى ظهرك ارتفعت ، كلما ركعت ارتفعت ، فبعد كل انحناءة ، بعد كل ركعة ، تتزايد الكلمات و الجمل و الافكار ، فتضم الحرف الى الحرف ، و الكلمة الى الكلمة، و الفكرة الى الفكرة ، و اذا بالمتناثر يلتئم ، و اذا بالملامح تتضح ، و اذا بالفجر يلوح ، و العطر يفوح ، هذا مولود جديد ، من رحم المعاناة ولد ، من نور و نار خلق ، و اذا بالجو اصفى ، و الهواء انقى ، و العالم احلى ، و اذا بابناء التراب يحلقون في السماء ، لقد نشلتهم من الطين الى السماء ، فرفعتهم و رفعوك ، سموت بهم و سمو بك ...
و اذا بالجسد المنهك يرتاح ، و اذا بالروح تحلق ...
و لكن ... لكن انظر ... انظر الى الاسفل ! انظر الى الملتصقين بالتراب ، انظر اليهم ، انهم يتصارعون ، "يتمرمغون" في الطين ، يخلدون الى الوحل ، ليتهم ينفضون التراب عن اعينهم ، اذن لدخل النور الى عيونهم ، ليتهم يغسلون الطين عن اجسادهم ، اذن لتسلل الدفء الى اوصالهم ...
انظر : ان بعضهم يتململ ، هنا و هناك ، هذه بشارة ، هذه بشارتين ، ها هم يلتقطون البذور التي نثرت ، ها هم يمتصون النور الذي بعثت ، ها هم يورقون ، يثمرون ، ها هي الحياة تتنقى ، تتصفى ...
أيها المسافر ... لست وحدك ، فقبلك سار على دربك الانبياء و الثوار و المصلحون ، لست وحدك ، فماء الحكمة يتدفق رويدا رويدا ، منذ القدم ، في شرايين الحياة .. لست وحدك ، فشمس العلم تشرق منذ القدم على الارض ... ها هي بذورك التي نثرت ، قد بللها ماء الحكمة ، و ضربتها شمس العلم ... لست وحدك فهؤلاء الذين نفضوا عن انفسهم التراب الى جانبك ، يضمون ارواحهم الى روحك ، ها هم المظلومون و المقهورون و المطحونون من كل حدب و صوب ينسلون ...
ايها المسافر ، لا بأس ، يتعب الجسد و ترتاح الروح ، هذا مكتوب على جبينك ... ايها المسافر غريب انت ، و لكنك اقرب من أي قريب ، ها هم ابناؤك في المشرق و المغرب يحتضنون روحك بارواحهم ، يقبلون قلبك بشفاه قلوبهم ، يخبئون الذكريات و الافكار في عين عقلهم ... ها هم يرون الطريق افضل ، ها هم يكتشفون الزيف ، و يلعنون المزيفيين ، ها هم يحللون ، يفككون ، يركبون .. و لك في كل خطوة يخطونها أجر ...
فما أخيب أصحاب المناصب و ما أشد غفلتهم ، ما أخيب المتفذلكين ، و المتفيقهين ، ما أخيب الانتهازيبن ... ما أنجحك و ما أخيبهم ، ما أبهاك و ما أقبحهم ... ما أقربك في بعدك ، و ما أبعدهم في قربهم ، ما اكثرك في وحدتك ، و ما أقلهم في جمعهم ...
طبت ايها المسافر ، و طاب مسعاك ...
مدمن على القراءة مهتم بالتاريخ و الفكر عاشق للروايه و السير مشغول بسؤال النهضة محب لتراثنا و مؤمن بضرورة الانفتاح على الافق الانساني الارحب