د. علي بانافع
قبل أكثر من عقدين وقع في يدي كتاب: "التعالم" للشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله، فوجدته كتاباً قيماً يعالج مرض التشبع والتعالم والتعالي وحب الظهور، وقد ساق فيه قصة المتعالم المتعالي الخنفشاري، الذي لا يظن العلم إلا أساطير الأولين، ولا يفقه من الحقيقة والمجاز إلا أسماء سمَّوها، لا يرى حُرمة لعالم وإن كانت إمامته معلومة بالحس، ولا يتورع عن اتهامه ولو شهد له الجن والإنس، نعم لقد كان بليداً، متعجرفاً، متعالماً، متعالياً، مغناطيساً، حتى نمى تعالمه إلى أهل العلم، فقرروا أن يكشفوا عن زيفه وتعالمه، بأن يقدم كل واحد منهم حرفاً ثم جمعوا الحروف فكانت كلمة: خنفشار؟! فذهبوا إليه وقالوا: جئنا نسألك عن كلمة: خنفشار؟! قال: هو نبات في اليمن تأكله الأبل فتعقد ضروعها، أولم تسمعوا قول الشاعر: لقد عقدت محبتكم فؤادي :: كما عقد الحليب الخنفشار ..
لكن أنا محتار ومستغرب من أين أتى الناس اليوم أن يسموا العجيب والغريب خنفشار أو خنفشاري، الصحيح أن لغة التخاطب بنت بيئتها، شاعر مدح خليفة وشبهه بالكلب وفاءً، تشبيه نابع من البيئة المحيطة والمبلورة لثقافة الشاعر، في اللغة العربية عبارة: "يُثلج الصدر" لن تجد نظير العبارة في اللغة الألمانية، لأن البيئة الألمانية باردة من أصلها فلا تفرح بما يُثلج الصدر، وفي الثقافة العربية -أيضاً- تعرف النخيل، لذا نقول عن الإنسان كبير السن: "شمس عمره على أطراف النخيل" عبارة لا مثيل لها في اللغة السويدية مثلاً، ونقول عن الجاهل: "أجهل من دابة" مع العلم أن هذه العبارة لا يقصد بها العرب سب الإنسان لشخصه، وفي هذا السياق نقرأ عبارة: "أبلد من حمار"، وذلك لأن الحمار مضرب المثل في البلادة، ولا نقول: أبلد من حمامة، أو أبلد من إنسان، أو أبلد من جن، لذا كانت العبارة سليمة، ومنها قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ولم يقل جل وعلا: كمثل الفيل!!
لذا من الناس من يكتفي بالإشارة عن التعيين، ومنهم من يحتاج إلى التصريح مع الرفق واللين، ومنهم من لا يجدي فيه إلا التقريع والتعنيف، ومن لم ينتفع بذا ولا بذاك فهو من الشياطين، وصاحبنا -موضوع المقال- من النوع أو المثل الرابع والعياذ بالله، ثم إن صاحبنا عربي قح من قلب جوف شبه جزيرة العرب فكان تمثيله بالحمار كتمثيل الشاعر بالكلب، ولو كان غير عربي لكان يضرب المثال بالقرد!!
لكن مؤاخذتي على صاحبنا أنه لما يُستدعي إلى اجتماعات إدارية أو ملتقيات علمية لا يحترمها، وعدم احترامه لها ليس من استعماله عبارة الحمار، ولكن لأنه لا يُحضر جيداً، ولا يُحدد إشكالية العرض، ولا يُركز على عناصره، ولا يُرتب أفكاره، لذا تجد كلامه وعروضه ملائ بالاستطرادات دخول وخروج، هذا يَصلح في الجلسات الخاصة أو اللقاءات الداخلية، أما في اجتماع إداري أو ندوة علمية فلا وألف لا، من هنا يُخطئ صاحبنا، أما أبلد من حمار فلها وجه سائغ خصوصاً أن حمار ستيفن وقف في العقبة ولله في خلقه شؤون لا يدركها من عمي بصره وبصيرته كصاحبنا.
أنا على علم يكاد يصافح اليقين بأن صاحبنا لا يعلم معادلة واحدة مما كتب وبحث واستنتج واكتشف ستيفن، وإنما هو غالباً حاطب ليل، حتى وصل به الأمر أن يزدري المعلمين والمتعلمين ويعيب عليهم علمهم ودينهم وصلاحهم، كأنما يحاكي الإنجازات الفيزيائية التي توصل إليها استيفن، والتي لا يعلم حقيقية واحد منها، أما أن يُترحم عليه فهذا غباء وجهل طافح مثل طفح المجاري بعد عشر دقائق مطر!!
الطامة الكُبرى أن هناك من يعزفون ويغنون لصاحبنا أُغنية: "بحبك يا حمار"، وهم على درجة كبيرة من الأدب والثقافة، بل ومن حملة المؤهلات العُليا، إذ لا أحد ينكر أن كثيراً من البشر لا يتقنون سوى فن التقليد والتطبيل، وهذا قانون اجتماعي أو سنة كونية جُبِلَ عليه بعض البشر، وقد خَصص لها الفقيه والمؤرخ والمفكر العربي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة الفصل الثالث والعشرون بعنوان: "في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، وأشار إلى أن المغلوب أو الضعيف هو من يُقلد الغالب أو القوي والعكس غير صحيح، فالغالب هو من يفرض لغته، وقوانينه، وثقافته، وأسلوب عيشه، وموضة لباسه، وحلاقته، وأغانيه، ومشروباته، ونظامه التعليمي، يفرضه على التابعين له من المرؤوسين سواء كانوا المعلمين أو غيرهم، بل إنه يتدخل في ما يُدَرَّسْ للتلاميذ من مقررات وبرامج وخاصة الجانب المتعلق بالدين والقيم، وقدوته الحمار للأسف الشديد، فهو في نظره يرمز إلى الإصرار والعناد والمثابرة وقوة التحمل والعمل، فكثير من الأعمال والمهمات الصعبة تسند للحمير، استناداً إلى القيمة التي أعطتها السينما الأمريكية للحمار، إذ جعلت منه بطلاً سينمائياً مقتدراً يقوم بمهام إنسانية، خصوصاً أن الحزب الديمقراطي الأمريكي اليساري قد جعل شعاره: "الحمار"، بل قد يُفكر أهل الإبداع والفكر الحر والخيال العلمي في بلاد العم سام أن يبرمجوا له أسفاراً على متن مركبة فضائية في مهمة استطلاعية استكشافية كونية الغرض منها إثبات أن الحمار حيوان ذكي أو على الأقل حيوان متذاكي!!
الحقيقة أن الحمير عندنا لا قيمة لها، فهي تتحمل من الضربات الموجعة من صاحبها ما يجعلها تصرخ للباري عز وجل، بل هي تتحمل من صاحبها الضربات بالعصا الغليظة الموجعة، والناس ينظرون ولا من محتج، الحمار دخل من الباب الواسع في المدرسة التقليدية العربية، حيث كان المعلم إما أن يطبع على دفتر التلميذ الكسول صورة حمار، أو يضع لافتة كتب عليها: هذا حمار، تعلق على ظهر من لم يستطع الكتابة بإتقان، أو يخطئ في الحساب، أو يقدم إجابة خاطئة شفهياً أو على اللوح أو على الدفتر، وعليه الطواف داخل المدرسة بين الممرات وداخل الفصول وفي الساحة وقت الفسحة ليراه كل التلاميذ، كان هذا التلميذ المسكين الذي تعلق على ظهره هذه اللافتة، لا يملك من الحيل إلا الرضوخ لسلطة معلمه اللامحدودة أدبياً: قم للمعلم وفه التبجيلا :: كاد المعلم أن يكون رسولا، واجتماعياً: المعلم يذبح والأب يسلخ، وقانونياً: لأنه يمثل سلطة المدرسة وإدارة التعليم، كان على التلميذ المُحتفى به بسادية سوداء يَسعد ويَتلذذ بها المرضى نفسياً كصاحبنا، أن يطوف على ممرات الفصل أمام كل تلميذ من زملائه، في ذل لا نظير له، وامتهان للذات الإنسانية التي كرمها الله، وكان عليه تقبل استهزاء وضحكات زملائه التلاميذ وسخرياتهم داخل الفصل وخارجه، كما يُؤمر أن يطوف في الساحة طولاً وعرضاً وفي جميع الاتجاهات، ليرى ويطلع كل تلاميذ المدرسة على اكتشافات مدراء المدارس آنذاك المغرقة في الإهانة والتحقير والإذلال والمس بالكرامة البشرية!!