Image title

تعبث الحروب بمكونات المجتمع وتركيبته النفسية والاجتماعية، وتنتج ظواهر لم يعهدها المجتمع سابقاً، فيجد المرء نفسه في مفترق الطرق، تتصارع في رأسه الكثير من الأفكار، التي لا يمكنه السيطرة عليها، وتدور في فكره العديد من علامات التعجب والاستفهام التي لا يجد لها جواباً مقنعاً، فيتحتم عليه الاختيار بين العبثية والتحرر من كل القيود الأخلاقية والاجتماعية والدينية، أو الانضواء تحت لواء “مخلص” بلحية وعمامة؛ ظنا منه أنه الطريق الأسلم..

يعد التطرف بكل أشكاله أخطر مفرزات الحرب السورية، ومنه النزوع نحو العقلانية واللادينية بصورها المتعددة، يرى أحد اللادينين الجدد أن انتشار الفلسفات اللادينية على مر العصور، كان عقب الحروب و الصراعات، مما جعل الوضع الملتهب في المنطقة العربية، بيئة مناسبة لاتجاه الكثيرين نحو الفلسفة والمبادئ العقلية وغير الدينية.

ومن هذه الأشكال التي طفت على الساحة “الإلحاد” و”اللادينية” بوصفهما “إنكار وجود إله خالق، والتحرر من الأديان”، على اعتبار الإلحاد موقف مكتسب، لا يعتمد في كثير من الأحيان على قراءات الملحدين واعتناق أفكارهم، بل حالة عشوائية لا تستند إلى معطيات، وتتحول تلقائياً إلى ما يعرف بـ”اللااكتراثية”، التي لا تهتم بوجد خالق أو عدمه، ولا تكترث لإثبات ذلك أو نفيه، وقد ظهرت هذه الأفكار في مجتمعاتنا مؤخراً نتيجة عدة عوامل أهمها:

النفور من الدين بوصفه قيداً يتشكل بسبب البناء الديني الهش المعاصر، حيث تنتشر الجماعات الدينية غير المؤهلة (في سوريا) لبناء فرد قوي يرتكز على عقيدة تمكنه من مواجهة كل الظروف والمعطيات، إنما تعمل هذه الجماعات على تجنيد النشء، وضمان طواعيته وطاعته، دون الالتفات إلى ضرورة بناء قناعاته؛ لتشكيل مواقفه التي تعتمد على الحقائق والقناعات، بل يتخذون من التبعية مبدأ للحفاظ على مكانتهم، ويغفلون النظرية التربوية القائمة على التفكير بسوية  والتعبير بحرية؛ وتكريس التبعية والسيطرة على العقول دون نقاش، ما أنتج جيلاً غير قادر على التفكير والتثبت والاستدلال.

كما يعمدون إلى لفت انتباه الناشئة عن الأمور الأساسية التي تبنى عليها القواعد الفكرية، وصرف اهتمامهم إلى أمور دينية بحتة، وحصر مفهوم الدين في فتاوى لا تتجاوز حد اهتمامات الأفراد، ولا يمكن أن تساهم في بناء العقائد وتثبيتها.

ومما رسخ لهروب الكثير من السلطة الدينية، تخلي المشايخ عن دورهم في الثورة السورية، وعدم وجود قدوات وقادة يمكن الانضواء تحت لوائهم، فقد تخلوا عن الدور الأساسي المنوط بهم، والتفتوا إلى سفاسف الأمور، بل تعدوا ذلك إلى ضرب أمثلة تشوه الدين وتنفر منه، وارتبطت صورتهم بالتسلق والانتهازية والانهزامية والهروب من المواجهة، والاختباء وراء أصابعهم..

ومن الثابت أن ظاهرة الإلحاد واللادينية، تتغذى على الثورات والاضطرابات والحروب، فحالة اليأس من معاينة الكم الهائل من المجازر، وما يعرف علمياً بـ “معضلة الشر”، تفرز حالة من الشك في وجود الخالق كردة فعل نفسية، حيث تطرح في النفوس تساؤلات لا يمكن الإجابة عنها في بعض الأحيان، فلماذا يرضى الله بموت الأطفال وحرقهم؟! مما يفقد المتسائل ثقته بالله، حين لا يجد إجابة ترضي عقله عند المشايخ ورجال الدين، يذكر أحد الملحدين الجدد أن بحثه لعدة سنوات في موضوع السبي والحكمة من تشريعه، أدى به إلى الإلحاد، بعد 3سنوات من البحث، وقصد المشايخ، وعدم وجود إجابة تشبع حاجات عقله.

كما أن حركة اللجوء التي أفرزتها الحرب السورية إلى أوربا، أفرزت حالة من التمرد ونزوع الشباب إلى خرق قواعد المجتمع، والتي تعد الطقوس الدينية في مجتمعاتنا جزءاً منها، مما يمنح الشاب أو الفتاة شعوراً بالتحرر من قيود المجتمع، التي تتمثل في العيب والحرام الذي يحكم تصرفات الأفراد، والرغبة في كسرها.

ورغبة المهاجرين بالانتماء إلى المجمتعات المضيفة والتشبه بهم، ورؤيتهم بأن الاندماج في هذه المجتمعات، لا تكتمل أركانه إلا بالتماهي والانصهار في هذه المجتمعات، مما يتطلب قناعات دينية مختلفة تلائم المرحلة ومتطلباتها، “أزمات” التقت أحد “اللادينيين” الذي وضح أن حالة الانفتاح في أوروبا، لا تتلاءم مع معطيات الدين الإسلامي غير المرنة، بل تحمل في طياتها علامات التخلف والرجعية، بوصفها تقيد الإنسان وتحد من طريقة تفكيره.

كما أن مصطلح “الحرية” الذي كان منطلق الثورات، أغرى الكثير من الشباب بالحرية المطلقة، التي تقتضي التحرر من كل أشكال القيود، مما جعلهم يتطرفون في اعتناق الحرية، حتى اتخذت الحرية شكل التفلت والانحراف ودعم المثلية الجنسية ومهاجمة الحجاب ودعوات الانفتاح اللامحدود فكرياً وأخلاقياً، ومهاجمة كل ما يمت للدين بصلة، والتعرض للمقدسات بالإهانة، والانتقاص من الرموز الدينية..

ولا يمكن إغفال مساهمة منصات التواصل الاجتماعي بانتشار هذه الأفكار، سواء كانت عن قناعة أو نوعاً من التقليد لا أكثر، يرى أحد الملحدين الجدد أن النقاشات والانفتاح على الآخر التي قدمها الإنترنت ساهمت في تبادل الأفكار، وقراءات أفكار الآخرين، في حين يتحول البعض إلى الإلحاد بدعوى تقليد المفكرين والعلماء، واتخاذهم قدوة، حيث يرى أن هؤلاء المفكرين على حق لاتساع مداركهم، فيتبعهم دون خوض أو جدال.

فالنقاشات تغري البعض باعتناق الأفكار الجوفاء التي تحاط بهالة من الغموض وصيحات الحرية، التي تعتبر أي قيد ديني أو اجتماعي تخلفاً ورجعية، ويدعون أن الدين والمذهب ليسا سوى صدفة جغرافية، وموروثاً اجتماعياً يجب الخروج من حدوده.

المصدر: صحيفة أزمات