الناس معادن تختلف طبائعهم وميولهم ورغباتهم، وكذلك فإن استجابتهم تتباين من شخص لآخر وتقبلهم للأمور يختلف من ظرف لآخر ومن بيئة لأخرى..

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، إِذَا فَقُهُوا*[1].

وعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلَاثَةٌ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ: فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ: فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ*[2].

 

لذلك كان لزاماً على الداعية أن يتعرف بجلاء على هذا الأمر، فيعرف كيف ومتى يقدم ويحجم، يصول ويجول، يأخذ ويعطي، يكرّ ويفرّ؛ بحسب طبيعة الموقف، وتبعاً لإمكانية الاستجابة للمتلقي من عدمها.

كل ذلك يحدد مسار الداعية، ويوجه طريقه نحو الأسلوب الأمثل الذي ينبغي عليه أن يتبعه ليحقق أهدافه المرجوة في سبيل الله..

فربما من الحكمة أحياناً أن تصمت ولا تتكلم، وأحياناً أخرى تكون الحكمة في عدم توجيه النصيحة إلى الشخص إلا بعد فترة من اكتمال المحبة، واطمئنان النفس وركونها إلى من ينصحها ويدلها على الخير..

ونادراً ما تؤتي الموعظة المباشرة ثمارها إلا إن كان جهاز الاستقبال لدى المدعو صحيحاً سليماً من الآفات والعيوب..

واستجابة الناس في الغالب تنبع من العاطفة التي يستولي عليها الهوى. فصار بعضهم يريد الدين على هواه، ويريد النبي على ما يحب، بل ويريد الله تعالى على ما يشتهي ويتمنى!!!.

فيقول الله تعالى في هؤلاء وأمثالهم: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ"[3].

فيرسم هواهُم الدينَ ضمن قوالب أعدها خصيصاً لهم، لينبثق عنها دين عصري تتناغم شهواتهم مع تعاليمه، وتتسق ميولهم مع شرائعه، وتتفق غرائزهم مع أحكامه، فتنبسط به أساريرهم ويتلقفونه بكل محبة ورضا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فلا يلقون بالاً لمن خالفهم من علماء الدين الحنيف والشرع القويم..

فقال تعالى في حق أولئك: " أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ "[4].

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس صار في هذا الزمان من أصعب الأمور ومن أشدها حساسية، وذلك لإعجاب كل ذي رأي برأيه، واكتفاء كل امرئ بما لديه من قناعات وطروحات، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: " كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ "[5].

 

فغدا من الصعب بمكان أن تزاح الأباطيل والمناكير ليحل مكانها السداد والصواب، والطهارة والرشد من تعاليم ديننا الحنيف، فلا تكاد تقول للمخطئ: "أنت مخطئ" وإلا فأنت العدو المبين، وأنت المتزمت المتشدد..

فكان لابد أن تغامر في قصة طويلة لاستصحاب هذا المخطئ لمدة – الله تعالى وحده يعلم بها - قبل أن تستغل فرصة سانحة لتتجرأ وتصدع له بكلمة الحق أو نصيحة الرشد، حتى تلقى القبول عند من يسمعها، أو على الأقل تضمن ألا يأتيك شر أو ضرر من صاحبها..

عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ *[6] .

فأضعف الإيمان أن تقول في نفسك: اللهم إن هذا منكر لا أرضى به.

فنحن في زمن عصيب، زمن الغربة والتغريب هذا الذي قال عنه المصطفى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً، فَطُوبىَ لِلْغُرَبَاءِ*.[7]

وقَالَ رسولُ الله r يصف آخر الزمان، وما يأتي فيه من الشدة والفتن ومختلف أصناف الشدائد والضغوط على المؤمن الملتزم بدينه، الغريب في وطنه وبين أهله وجيرانه: يَأَتِي عَلَى النّاسِ زَمَانٌ الصّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كالقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ*[8] . 

وعن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيّ رَضِي اللَّه عَنْهُ قال: سَأَلْتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قَوْلُهُ تَعَالَى: " يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرّكَمْ مَنْ ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ "[9]  فقال: "بَلْ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، حَتّى إِذَا رَأَيْتَ شُحّا مُطَاعاً، وَهَوًى مُتّبَعاً، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصّةِ نَفْسِكَ، وَدَعِ الْعَوَامّ، فَإِنّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيّاماً الصّبْرُ فِيهِنّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلعَامِلِ فِيهِنّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ* [10].

نعم، فلن تكون من الناس استجابة ولن تجدي معهم دعوة إذا كان الظلم طليقاً مطاعاً لا رادع له، والهوى إلهاً يتبع ويعبد من دون الله، ورَكَنَ الناس لدنياهم وتنافسوا فيها وآثروها على ما عند الله، وأعجب كلٌ برأيه فلم يعد قادراً على الاستماع للنصائح والمواعظ..

 

عند ذلك لا تنفع الدعوة، ولا يجدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئاً، ولم يعد يرتجى من الناس خير ولا فضيلة..

فالأفضل عندها البعد عن العامة، ومجاهدة النفس في الخاصة، مع الصبر والمصابرة في الثبات على الحق، والمثابرة على الدعاء، انتظاراً لأمر الله وفرجه ورحمته..

 

لذلك فإن مهمة الداعية في زمن الفتن ، ونحن فيه، أو قريبين منه، مهمة عظيمة تستنفذ الجهد والوقت، وتحتاج إلى صبر عظيم، وبال طويل..

قال تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ "[11].

والنفس البليدة المتواكلة جبلت أساساً على الركون لما تعودت عليه، بل وتستهجن -في الغالب- الجديد الذي يغير أسلوب الحياة أو أسلوب التفكير..

فكما قيل في المثل القديم : " الإنسان عدو لما يجهل ".

فيقول تعالى في محكم التنزيل في حق هؤلاء: " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"[12].

فيكتفي هؤلاء بما عاشوا عليه من الأعراف والقناعات، حتى ولو كانت على باطل، دون أن يكلفوا أنفسهم فرصة الإطلاع على نور معرفة رب العالمين، فيقول تبارك وتعالى: " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ "[13].

وفي العادة، فإن المترفين والمتنعمين في الدنيا هم أصحاب هذا الاتجاه من عدم الاستماع إلى نداءات المعرفة والإيمان، خوفاً من ذهاب ما ورثوه أو ما حصلوا عليه بانفلاتهم وبعدهم عن منهج رب العالمين، فيقول عز من قائل: " بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ "[14].

لذلك كان أصل داء الكفار والمشركين أنهم نبذوا دعوة الله البيِّنة وراء ظهورهم، وتعامَوا عن آيات الله الباهرات في الآيات والأنفس، وقالوا: يكفينا ما درجنا عليه من علم وهداية مع آبائنا وأجدادنا!! بدون حتى أن يكلفوا أنفسهم النظر في هذا الذي قلدوا فيه آباءهم، هل هو حق؟ أم أنه هراء وباطل، وينبغي البحث عن طريق قويم غيره..

لهذا، فإنه في الإسلام لا يقبل التقليد في العقيدة، بل يجب على المكلف شرعاً أن يعرف الله يقيناً، لقوله تعالى: " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " [15].

وتتضمن هذه المعرفة الجزم، وكونها مطابقة للواقع، وكونها ناشئة عن الدليل.

والمقلد إنما يأخذ بقول غيره دون أن يعرف دليله أو يختبره، فهو مؤمن عاص إن كانت فيه أهلية النظر، وهذا خلاصة أقوال العلماء[16]..

واستجابة الناس للدعوة هي تَعَرُّفُهم على رب العالمين، ودخولهم في بوتقة الإسلام العظيمة، ذلك الدين الذي ارتضاه الله للناس لينقذهم به من الظلمات إلى النور..

قال تعالى: " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ . [17]

وقال جل من قائل: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" [18].

واستجابة المؤمنين للدعوة تتلخص بتطبيق أحكام الدين وإقامة شرائعه، فيقول تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ"[19].

قال ابن عباس: إذا سمعت قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا" فأعطها سمعك، وافتح لها قلبك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.

فمحبة الله تعالى تستوجب اتباع أوامره واجتناب نواهيه، وفي ذلك الفلاح والفوز المبين، واتباع سنة الرسول r هو من محبة الله تعالى. يقول الله عز وجل : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ "[20].

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى. [21]

 

فطاعة الرسول الكريم هي من طاعة الله تعالى، والاستجابة لأوامر الشرع فيها الحياة الحقيقية والسعادة المطلقة في الدين والدنيا والآخرة.

 

*              *              *              *

ولنعقد الآن مقارنة بسيطة بين استجابة الصحابة الكرام والرعيل الأول لأوامر الشرع، وكيف دانت لهم الدنيا وسادوا العالم، وبين استجابتنا نحن لأوامر الشرع، وما آل إليه أمرنا من الذل والهوان..

* فعندما نزلت آيات تحريم الخمر، لم ينتظر المدمن الذي أدمن على الخمر عمراً مديداً وسنوات عديدة كي تخف نسبة الكحول في دمه بالتدريج!! بل امتثلوا جميعاً، وقالوا بصوت واحد بعد ما سمعوا آيات الله تتلى، "فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.[22]"؟ قالوا: انتهينا انتهينا يا رب.

* وعندما نزلت آيات الحجاب.. هل انتظرت النساء والفتيات وقتها حتى يقتنعن؟ كما هو حال الكثير من الفتيات اللواتي لا يقتنعن حتى يأتي الخاطب، عند ذلك تتم القناعة الفورية بالحجاب – أجل القناعة تأتي مع الخاطب!!.

والبعض منهن لا تأتي إحداهن القناعة إلا بعد مصيبة عظيمة تقترب بها من الله، وتشعر أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فتقتنع عندها والحمد لله..

وبعضهن لا تأتيهن القناعة حتى يَقْدُم ملك الموت يدعوهن للقاء رب العالمين، فيحدث وقتها الندم، ولات ساعة مندم..

إن استجابة الرعيل الأول لأوامر الله تعالى ورسوله الكريم كانت فورية ومباشرة وبدون أي ختل أو مواربة، فما أن نزلت آيات الحجاب حتى عمدت نساء المهاجرين والأنصار فشققن الأكسية والشراشف، والتحفن بها متحجبات متسترات، وغدوا في الصباح الباكر وكأنهن غرابيب سود، أو كأن على رؤوسهن الغربان، ولسان حالهن يقول: سمعاً وطاعة يا رب.

فعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [23]) شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا*[24].

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ *[25].

* عندما قال المصطفى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى[26]. كيف استجاب الصحابة وكيف استجبنا نحن؟؟. وهذا المثال نضربه لا لنشدد على الناس ونضيق عليهم السبل، فالأمر أيسر من ذلك أمام العديد من ارتكاب المنهيات وترك المأمورات فضلاً عن إهمال السنن، ولكن ليعلم الفرق بين الاستجابتين، ولا يستغرب بعدها من حال المسلمين وقتها وكيف ملكوا الدنيا، وحال المسلمين اليوم بالذل والهوان الذي لا يحسدهم عليه حاسد..

فأدعياء العلم عندنا من الفلاسفة وفقهاء اللغة طفقوا يفسرون الأمر في إعفاء اللحية على أنه تارة سنة، وتارة أخرى على أنه أمر غير جازم، أو أنه للندب بل للإباحة، أو أنَّ مخالفة المشركين والمجوس تقتضي غير ذلك أو..أو.. هرباً من اتباع السنة في الحقيقة، وبحثاً عن أي دليل يتعلقون به في سبيل ذلك، وهم يعلمون تمام العلم أنهم مقصرون في هذا الأمر، ونسأل الله لنا ولهم الهداية وحسن الخاتمة..

* قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ. [27]

انظروا إلى المحاكم وما يجري من أكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على الآخرين واغتصاب حقوقهم، بين المسلمين؟ نعم بين المسلمين..

بل ومع كل أسف، بين الأخوة في البيت الواحد، بين الأب وأولاده، بين الأم وابنها أو ابنتها، بين الزوج وزوجته، بين..

ولقد شنع الإسلام بكل من يأكل مال الآخرين نتيجة لتميز معين بحجة زائفة، أو معرفة لصيقة، أو مصلحة شخصية، أو غيرها من الرشوة والمحسوبية وما إلى ذلك..

واعتبر هذا الذي يأخذه بدون وجه حق قطعة من النار يصطلي بها في الدنيا والآخرة..

فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَدَقَ فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا. [28]

وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. [29]

وقرر المصطفى عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى يحاسب على النوايا، فمن أخذ أموال الناس يريد أداءها أعانه الله تعالى في ذلك، وأدى الله عنه لو مات ولم يستطع الوفاء.. أما من يأخذ أموال الناس وهو ينوي منذ البداية أكلها سحتاً وجحدها فإن الله سيتلفه مع ماله، إن عاجلاً أم آجلاً..

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذهَاَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ. [30]  

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربعةٌ يؤذُون أهلَ النارِ علَى ما بهم منَ الأذَى، يسعَون بينَ الحَمِيم والجَحيم يَدعُون بالوَيل والثُبور، يقُولُ أهلُ النارِ بعضُهم لِبعض: ما بالُ هؤلاء! قدْ آذَونا على ما بِنا من الأذى، قال: فرجلٌ مغلقٌ عليه تابوتٌ من جمر، ورجلٌ يجر أمعاءَه، ورجلٌ يسيلُ فوهُ قيحاً ودماً، ورجلٌ يأكلُ لحمَه.

فيُقال لصاحبِ التابوتِ: ما بالُ الأبعدِ! قدْ آذَانا علىَ ما بِنا منَ الأذَى؟ فيقولُ: إن الأبعدَ ماتَ وفي عنقه أموالُ الناسِ ما يجدُ لها قضاءً.

ثم يُقالُ للذي يَجرُّ أمعاءَه: ما بالُ الأبعدِ! قدْ آذَانا علىَ ما بِنا منَ الأذَى؟ فيقول: إنّ الأبعدَ كانَ لا يبالي أينَ أصابَ البولُ منه ثم لا يغْسِله.

ثم يُقالُ للذي يسيلُ فوهُ قيحاً ودماً: ما بالُ الأبعدِ! قدْ آذَانا علىَ ما بِنا منَ الأذَى؟ فيقول: إنَّ الأبعدَ كانَ ينظرُ إلى كُلِ كلمةٍ قذْعةٍ خبِيثةٍ يَسْتلذّها كما يَستَلذّ الرَفَث.

ثم يُقالُ للذي يأكلُ لَحْمَهُ: ما بالُ الأبعدِ! قدْ آذَانا علىَ ما بِنا منَ الأذَى؟ فيقول: إنَّ الأبعدَ كانَ يأكلُ لحومَ الناسِ بالغيبةِ ويمشي بالنميمة. [31]

والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه عندما أمر بالحدود، بدأ بنفسه، حتى لا يطمع طامع برحمته وسماحته، ولا يجترئ مجرم على حكمه وعدله..

وبَيَّن صلى الله عليه وسلم أن خراب الأمم وهلاك الحضارات أتى من التقصير في إقامة العدل بين أركانها، وهذه سنة الله في أرضه.

فكما أن الماء حياة للبشر والمخلوقات جميعاً، فإن العدل حياة للمجتمع ولسائر الأمم..

فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ- حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. [32]

والمجتمع الإسلامي مجتمع نظيف طاهر، المفترض أن كل فرد من أفراده يعرف ماله وما عليه من حقوق وواجبات، يعرف حدوده فيقف عندها، ولا يتعدى على حقوق الآخرين.

وهكذا كان فعلاً حال الرعيل الأول من الصحابة الكرام حين عيَّن الخليفة الراشد أبو بكر الصديق عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما قاضياً للمسلمين، وبعد عدة أشهر طلب إعفاءه من مهمته لأنه لا يأتيه أحد من الخصوم، فالكل يعرف حدوده وحقوقه..

ليت شعري، هل جيل الصحابة من كوكب آخر، أم أننا نحن أصبحنا في عالم آخر، من استمراء الظلم والرضا بالباطل والتعدي على حقوق الآخرين..

وبنظرة عابرة على معظم محاكم المسلمين ترى العجب العجاب، حتى أن شهادات الزور بات ينادى عليها في العلن..

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* في مسألة الزواج أيضاً يتضح لنا ذلك البون الشاسع بين ما أمر به الشرع وبين ما يطبق منه على أرض الواقع..

سألني أحدهم عن شاب أعرفه تقدم لخطبة ابنته، وهذا الشاب ابن تاجر كبير من كبار تجار البلد، فقلت للأب- والمستشار مؤتمن-: إن هذا الشاب لا يصلي، فأجاب على الفور: لا يهم، سيصلي بإذن الله!!.

فقلت له: إن له رفقة طائشة من الشباب والفتيات، فقال بدون تردد: ليست مشكلة، الزواج سيهديه، والبيت سيؤويه!!.

قلت: إن أخلاقه لا تصلح لابنتك، قال لي وقد أصبح فجأة داعية من الدعاة: يا أخي، الصلح مع الله بلمحة، لا تعقّد الأمور فأنت لا تفهم عليّ، أريد رجلاً موسراً لابنتي لأضمن لها السعادة الدائمة، فما بالك بأن زوَّجتها حافظاً للقرآن ثم تأتيني تريد مصروفاً لها وللبيت!!. هذا الكلام الذي تقولونه غير واقعي...

قلت له: والله أنت لا تفهم علي، فقد أثَّرت العملات الصعبة ورصيد والده الضخم في عقلك، فلم تعد ترى إلا المال والغنى والعقار..

وأنت تدّعي أنك تراعي في ذلك مصلحة ابنتك.

فهل الأمان بيد هذا الشاب الطائش الذي سيهديه الله على يديك أنت وابنتك؟؟ أم أن الأمان بيد الله وحده، فيبارك الله بالزواج من صاحب الخلق والدين، كما أمرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم. فالمال غاد ورائح، والسعادة إن لم تنطلق من القلب بتوفيق رب العالمين لا يمكن لأموال الدنيا وزخرفها ومتاعها أن يأتوا بها..

وعلى النقيض من ذلك تنطلق الخاطبة بحثاً وغربلة عن فتاة الحسن والجمال، مصطحبة معها جميع المقاييس العالمية من الطول، والوزن، وعرض الخصر والأكتاف، ورشاقة القوام، إلى فتحة الحدقة، واتساع العين ولونها، وطول الأهداب، ورصفة الأسنان، وجمالية الأنف، وعذوبية النطق، وجاذبية المحيا، وإشراقة الطلة و..و..و...

 

لا عتب عليها، فهي تبحث عن فتاة كاملة المواصفات (Full Options)!!.

 

يمر معها العديد من الفتيات المستورات اللواتي يتمتعن بالجمال والعفة والخلق والدين.. تلك المواصفات التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ. [33]  

لكنّ هذا ليس طلبها!!. ما الذي تريده إذن؟.. أليست هذه الفتاة التي رأتها جميلة وعفيفة، ومن عائلة محترمة؟؟.

لا أيها الأخوة، إنها تبحث عن الجمال الفائق، والإغواء الباهر، والفتنة التي لا تقاوم!!!!! ولا يهم الدين والخلق والمنبت الطيب، فكل ذلك يعوَّض، أما الجمال الفتان أو الفتاك فإنه لا يعوضه شيء..

تبحث عن فتاة فائقة الجمال، وبارعة الحسن، لترفع رأسها عالياً بين الناس. ولا يعرف هل سيظل رأسها مرفوعاً بهذا الجمال الباهر؟ أم أنه سينكس بعد حين..

 

نعم، تترك كل ذلك الحلال الطيب، وتنتقي ما يكثر عليه الذباب والهوام. ولكن أين تلتقي بمجموع كل هذه المواصفات؟ لابد من تفصيل فتيات على المقاس، أو طلبهن مسبقاً من مصنع الفتيات..

كم من الزيجات التي بنيت أساساً على الجمال وحده، يعيش فيها الأزواج في جحيم الشك والغيرة، فيقدم على مراقبة بيته وهاتفه على مدار الساعة..

 

-فإما أن يكمل حياته في حذر وترقب دائمين، وإما أن يعيش بأذنين طويلتين، فينعم بالجمال الفتاك مع عيشة خسيسة مهينة في الدنيا والآخرة..

 

فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى امْرَأَةً وَهِىَ لاَ تَدْفَعُ  يَدَ لاَمِسٍ، قَالَ: طَلِّقْهَا. قَالَ: إِنِّى أُحِبُّهَا وَهِىَ جَمِيلَةٌ، قَالَ: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا!!. [34]  

-وإما أن يهدم بيتاً حاول أن يبنيه على مخالفة صريحة لما أوصاه به الشارع الحكيم، بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32). [35]  

وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ. [36] قول فصل ووصية خالدة لكل من يبحث عن الزواج، فإن لم تفعل ولم تظفر بذات الدين خَسِرت سعادةَ الدهر، وكنت من النادمين، ورَغِمَ أَنْفُكَ والتصقت يداك بالتراب..

نريد لشبابنا زوجات صالحات، يحفظنهن في غيابهم عن البيت، فيقول الله تعالى:

فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ. [37]  

يذكرونهن بالله إذا نسوا، ويساعدونهن على المعروف إذا بذلوا، ولا يطاوعوهن في منكر أبداً..

نبحث أولاً عن الخلق والدين والمنبت الطيب، فإذا جمعت الفتاة مع الخلق والدين الجمالَ أو النسبَ أو المالَ، أو جمعت الخصال كلها، فيكون ذلك حُسناً على حُسن، ونورٌ على نور، وزيادة في العمر والسرور، وهناءة في العيش، وراحة للبال، طالما أن الأساس المتين قائم على الخلق والدين وخشية الله عز وجل..

وفي صحيح مسلم ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال  لعمر: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ. [38]  

* أجمع فقهاء وعلماء المسلمين على حرمة التبغ لما فيه من الضرر الأكيد على الصحة والمال. ومع ذلك انظروا إلى نسبة المدخنين بين المسلمين، وكيف أن بعضهم اتخذ من بيع التبغ والدخان والأركيلة وموادها مورد رزق، له يَطْعَمُ منه ويُطعِم أهله منه، ونسي الحلال والحرام، وتعامى عن السحت والخبث.

وقد صرح بذلك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كُلّ جَسدٍ نَبتَ مِنْ سُحتٍ فَالنارُ أولىَ به. [39]  

وفي رواية للبيهقي في الشعب عن كعب بن عجرة قوله صلى الله عليه وسلم: يَا كَعْبُ، إنّه لا يَدخُل الجَنَّةَ لحمٌ ولا دمٌ نبتا مِنْ سُحْت، كُلّ لَحْمٍ ودَمٍ نَبتا مِنْ سُحْت، فَالنارُ أولىَ به.

والسُّحت : الحَرَام الذي لا يَحِلُّ كسْبُه؛ لأنه يَسْحَت البركة: أي يُذْهبها، والسّحت من الإهْلاك والاستِئصال.

بل انظروا وتمعنوا جيداً في مَنْ يدخِّن الأركيلة من النساء قبل الرجال في المطاعم والمقاهي العامة، بلا خجل ولا حياء، وقد كشفن ستر الله رغبة في سخطه وغضبه!!.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب المعاصي بالاستتار عن الناس من معاصيهم والتوبة إلى الله بدلاً من إظهارها علانية في المجتمع النقي الطاهر: مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ.[40]

رحمةً منه صلى الله عليه وسلم لأصحاب البلاء، ورغبةً في توبتهم قبل موتهم، أو قبل أن يُقدر عليهم ويُقام عليهم الحد، وإشفاقاً منه وهو نبي الرحمة r في أن يتكدر صفو المجتمع، وينتشر الفساد في الأرض..

فللمتأمل أن يعاين كيف تحول المنكر في مجتمعاتنا بالعرف الفاسد إلى شيء عادي ألفه الناس واعتادوا عليه رويداً رويداً..

*              *              *              *

في الحقيقة، الرعيل الأول من الصحابة الكرام كان يتحرى اتباع أمر الحبيب المصطفى r، بل اتباع دقائق ما يحب والابتعاد عن دقائق ما يكره..

وننتقل الآن إلى نقلة نوعية من الاستجابة لمن سادوا العالم وملكوا القلوب قبل الثغور، وفتحوا المهج قبل القلاع، لتتبعهم هدي القرآن الكريم وسنة الحبيب الأعظم صلوات الله وسلامه عليه..

عن العِرْبَاضِ بنِ سَاريةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قال: قامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلَافًا شَدِيدًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. [41]  

نعم، علينا التمسك بسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والتمسك بالسنة يقتضي التطبيق والتنفيذ، وهذا ما سمعناه وقرأناه عن صحابة رسول الله الكرام..

فعن الحسن بن أبى الحسن البصري قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم، وفيهم عمر بن الخطاب، وأمَّر عليهم أسامة ابن زيد، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر: ارجع إلى خليفة رسول الله، فاستأذنه يأذن لي أن أرجع بالناس، فإن معي وجوه الناس وحدهم، ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون.

وقالت الأنصار: فإن أبى إلا أن نمضي، فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة.

فخرج عمر بأمر أسامة، وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: لو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لم أردّ قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأجهزن جيش أسامة وآمر الحرس يكونون حول المدينة..

قال: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك، وأنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة، فوثب أبو بكر وكان جالساً، فأخذ بلحية عمر فقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أنزعه؟؟!!!.

فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله؟.

ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم، فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب، وعبد الرحمن ابن عوف يقود دابة أبى بكر، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن، فقال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أغبِّر قدمي في سبيل الله ساعة، فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترفع له، وترفع عنه سبعمائة خطيئة. حتى إذا انتهى، قال: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل، فأذن له.. [42]   

هذا الفهم الصحيح لسنة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والاستجابة المطلقة لأوامر الشرع وهدي سنة الحبيب الأعظم صلوات الله وسلامه عليه نحن بحاجة ماسة إليه، ليعود لنا مجدنا، وعزنا، وكرامتنا..

 

لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أردّ قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟..

 

لذلك فإن التمسك الصحيح بهذا المنهج النبوي بدون لف أو مواربة، وبدون خجل أو استحياء هو الذي سيقودنا إلى خيري الدنيا والآخرة بإذن الله..  

كان عبد الله بن عمر يحفظ ما يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يحضر، سأل من حضر عما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل.

وكان يتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مسجد صلى فيه، وفي كل بقعة مر بها.

وكان يعترض براحلته في كل طريق مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا في هذا الموضع حط رسول الله صلى الله عليه وسلم رحله، فيحط عبد الله رحله في المكان نفسه، وفي هذا الموضع ذهب الرسول الكريم وأبعد وقضى حاجته، وفي هذا المكان فعل رسول الله كذا وكذا فيفعل عبد الله الفعل نفسه!! فيقال له في ذلك، فيقول: أتحرى أن تقع راحلتي على بعض أخفاف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم. [43]  

اللهم ألهمنا حسن الاستجابة لشرعك القويم وهدي نبيك الكريم، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه..

د. بشار القهوجي

[1] . رواه مسلم وأحمد.

[2] . رواه مسلم .

[3] . النحل : 62 .

[4] . فاطر : 8 .

[5] . المؤمنون :53.