من المعروف أن رائد التنوير في العصر الحديث هو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، فقد أُرسل على رأس بعثة إلى فرنسا عام 1826م ليكون إمامًا لها،ولكن قبل سفره نصحه شيخه حسن العطار قائلًا:"إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها"(1) فقام رفاعة الطهطاوي بوصف الحياة الغربية عمومًا والفرنسيةخصوصًا في كتابه القيّم"تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وكان يدعو إلى أن نحزو حزوهم،ونطبق المدنية،ولكن ما المدنية التي دعا إليها الشيخ رفاعة،وما الفرق بينها وبين المدنية التي يدعو إليها العلمانيون الآن؟

   من المعروف أن العلمانيين قاموا باستبدال مصطلح الدولة المدنية بالدولة العلمانية; وذلك لما أصاب الناس-عوامَّهم وخواصَّهم-من اشمئزاز ونفور عند ذكر مصطلح الدولة العلمانية،فاستبدلوا بها الدولة المدنية،ولكن هل هي ذاتُ الدولة المدنية التي دعا إليها الشيخ رفاعة الطهطاوي؟!

   "فصل الدين عن الدولة" هذا هو شعار الدولة المدنية،أو دعنا نسميها باسمها الصحيح الدولة العلمانية،فالدولة العلمانية لا وجود فيها للدين سوى في دور العبادة،أما خارج ذلك فلا وجود له،ومقياس الحُسْن والقُبْح في دولة العلمانيين هو مقياس العقل والعلم فقط ولا دخل للدين فيه!

   أما المدنية التي دعا إليها الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي فقد قسَّمها إلى قسمين:مدنية معنوية ومدنية مادية،فالمدنية المعنوية قوامها الدين،والمدنية المادية قوامها العلم،وجعل كذلك علامات التمدن ودلائل العظمة تقوم على ثلاثة ركائز هي:حسن الإدارة الملكية(السلطة السياسية)،والسياسة العسكرية(القوة التي تحمي الدول وتحفظ لها سيادتها) ،ومعرفة الألوهية(الدين الذي ينظم حياة الناس على أسس من العدل والشورى)(2) فهنا جعل الشيخُ رفاعة الدينَ ركيزةً أساسية من ركائز الدولة المدنية.

   ولكن قد يقول قائل:"إن هذا لا يتنافى مع الدولة العلمانية;فالدولة العلمانية تتيح لكل إنسان كائنًا ما كان أن يتمسك بقيم ومبادئ دينه،إذن فلا تعارض بين المدنيتين!" نرد عليه بأن مقياس الحُسْن والقُبْح في الدولة العلمانية هو مقياس العلم والعقل فقط،ولكن عند الشيخ رفاعة جعل مقياسهما الحلالَ والحرامَ الشرعيَّين حيث قال:"فتمدن الممالك الإسلامية مؤسس على التحليل والتحريم الشرعيين،دون مدخل للعقل تحسينًا وتقبيحًا في ذلك،حيث لا حَسَن ولا قبيح إلا بالشرع"(3) من هنا يتضح الفرق الكبير بين المدنية التي دعا إليها الشيخ رفاعة الطهطاوي والتي قوامُها الدين،والمدنيةِ التي يدعو إليها العلمانيون الآن،وهناك فرقٌ آخر هو وضع المرأة في الدولتين وهو ما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله -عز وجل-.

بقلم /محمد الخولي

(1)محمد عمارة/الأعمال الكاملة للطهطاوي 1/19

(2)أحمد عرفات القاضي/الخطاب الديني المعاصر 129

(3)المرشد الأمين في تربية البنات والبنين2/465 نقلًا عن كتاب تجديد الخطاب الديني 145