شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا من جانب الجهات الحكومية والقطاع الخاص لاعتماد مفهوم إدارة المعرفة (Knowledge Management) كأحد العوامل المهمة جداً والمؤثرة في نجاح أو فشل المنظمة. ونتيجة لذلك، فإن الأدبيات حول مفهوم إدارة المعرفة نمت في كميتها ونوعيتها، فالموارد الاقتصادية في الوقت الحالي لا تتكون من رأس المال أو الموارد الطبيعية أو الأيدي العاملة فقط، بل أيضاً من المعرفة، والتي تعتبر أحد المحركات الرئيسية لإنتاج مشاريع وأفكار جديدة. ويشير عدد من علماء إدارة المعرفة بأن مصطلح المعرفة يمكن أن يعرف بأنه معتقدات ومعلومات وخليط من القيم والخبرات المتراكمة التي يتم تخزينها في ذهن الأفراد لتساعدهم على إنجاز أعمالهم في تحقيق رؤية ورسالة المنظمة التي يعملون بها. ولقد ناقش العديد من العلماء وعلى نطاق واسع موضوع إدارة المعرفة، ونشروا العديد من المقالات والدراسات التي تهتم بهذا المفهوم، إلا أنه لا يوجد تعريف محدد لها حيث أن الآراء والأفكار التي تدور حول موضوع تعريف إدارة المعرفة عديدة ومتباينة. ولكن هناك اتفاق إلى حد ما بين أطياف علماء إدارة المعلومات بأن إدارة المعرفة من الممكن تعريفها بأنها نظام يشجع الناس على المشاركة وإنشاء نوع من التعاون لتحقيق النجاح في المنظمات التي يعملون بها من خلال مجموعة من الإجراءات والبنى التحتية والأدوات الفنية والإدارية المصممة لإنشاء وتبادل المعلومات. ويعرف علماء آخرون إدارة المعرفة بأنها فن تحويل المعلومات والأصول الفكرية إلى قيمة دائمة لعملاء المؤسسة وأفرادها. ويرجع أهمية إدارة المعرفة إلى عوامل عديدة من بينها تبسيط العمليات وخفض التكاليف عن طريق التخلص من الإجراءات المطولة وغير الضرورية وتبني فكرة الإبداع عبر تشجيع مبدأ تدفق الأفكار بحرية. ويذكر الأستاذ الدكتور خضير كاظم محمود في كتابه منظمة المعرفة أن إدارة المعرفة من الممكن أن تساعد المنظمة على التكيف مع المتغيرات التي تحدث في المجتمع الإنساني وذلك لكثافة المصادر المعرفية بمختلف جوانبها التكنولوجية والمعلوماتية وغيرها، وتفيد في بناء بيئة تشاركية بين العاملين في المؤسسة الواحدة من خلال تبادل المفاهيم والأفكار ونشر المعرفة بينهم مما يؤدي إلى خلق ثوابت وقواعد معرفية بين العاملين، وتسمح أيضاً إلى تبني العاملين في المؤسسات بقطاعيها الخاص والعام سبل التغيير وفق المستجدات التي تتطلبها ظروف الاستقرار ومواصلة البقاء في أسواق المنافسة في المجتمع. ويشير عبدالله سلم في كتابه إدارة المعرفة وتكنولوجيا المعلومات أن إدارة المعرفة أداة لاستثمار رأس المال الفكري للمنظمة، بحيث تسهل وتمكن إيصال المعرفة للأشخاص الآخرين المحتاجين إليها وتعزز مقدرة المنظمة على الاحتفاظ بالأداء المنظم المعتمد على الخبرة والمعرفة وتحسينه. ومفهوم إدارة المعرفة قد قام بتنفيذه العديد من المؤسسات والمنظمات العربية وذلك لإيمانها بأهميته في تشجيع الابتكار الفردي والجماعي وبأن المعرفة قوة إذا تم تبادلها ومشاركتها بين العاملين في قطاعات الأعمال المختلفة. فوزارة المالية بدولة الإمارات العربية المتحدة قامت بإنشاء إدارة للمعرفة تهدف إلى تسخير المعلومات وذلك عن طريق الاستفادة من المعلومات والبيانات والخبرات والتجارب بشكل يسمح لها باتخاذ القرارات الملائمة في الوقت المناسب وابتكار الحلول لتحقيق رؤيتها وأهدافها وتنفيذ خططها في ظل المتغيرات السريعة والتنافسية العالمية. كما قامت الهيئة الاتحادية للموارد البشرية الحكومية بدولة الإمارات الشقيقة بإصدار دليل استرشادي لإدارة المعرفة في الحكومة الاتحادية بحيث يكون دليل متكامل يشتمل على العديد من المعلومات حول هذا المفهوم ووسيلة سهلة للجهات الحكومية في الدولة للرجوع إليه في حالة رغبتهم في تطبيق إدارة المعرفة. كما اشتمل الدليل على نموذج استبيان تقييم مستوى نضج إدارة المعرفة في الجهات، حيث صمم هذا الاستبيان لمساعدة المسؤولين في الدوائر الحكومية في تقييم مستوى نضج الجهة من ناحية إدارة المعرفة والتعرف على نقاط القوة ومجالات التحسينوذلك عبر عدة معايير من بينها معيار القيادة، معيار التكنولوجيا، معيار التعلم والابتكار، ومعيار الموارد البشرية. وفي المملكة الأردنية الهاشمية، قامت وزارة التربية والتعليم بوضع استراتيجية لإدارة المعرفة وتشتمل على هدفين رئيسيين وهما ترسيخ وتطوير مفهوم إدارة المعرفة في إدارات الوزارة المختلفة وتحديث الأنظمة والتعليمات لضمان الاستثمار الأمثل للمعرفة.ودولتنا العزيزة المملكة العربية السعودية لم تألوا جهداً في تقديم كل ما تستطيع لتنفيذ هذا المفهوم في الإدارات والمرافق الحكومية المختلفة. فلقد سعى قادتنا حفظهم الله في توظيف مفهوم إدارة المعرفة لدعم ما تقوم به مكاتب تحقيق رؤية 2030 وإدارات التخطيط الاستراتيجي لها من مهام وأنشطة، وإتاحة الفرصة لقادة هذه الإدارات لتبادل الرؤى والأفكار والخبرات حول سبل توظيف إدارة المعرفة لتسريع تنفيذ مبادرات برنامج التحول الوطني، وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للرؤية. فالعديد من الجهات الحكومية أطلقت استراتيجيتها لإدارة المعرفة ومن بينها الإدارة العامة للتعليم بمحافظة جدة التي قامت بإنشاء وحدة لإدارة المعرفة والتي تهدف بشكل عام إلى تطوير وتحسين الأداء المؤسسي؛ لبناء مؤسسة متعلمة، واستدامة القنوات التنافسية. كما اشتمل هيكلها التنظيمي على عدد من القيم من بينها التعاون المهني لأداء المهام بروح الفريقالواحد، وزرع الثقة بين بقية أعضاء فريق العمل، ونشرثقافة مشاركة المعرفة، والابتكار لإنشاء وتطوير واكتساب معارف جديد أو أنشطة وممارسات جديدة.وتأتي الهيئة الملكية للجبيل وينبع التي تعتبر من الجهات الحكومية الرائدة في تطبيق مفهوم إدارة المعرفة حيث قامت مؤخراً بتدشين مقهى المعرفة الذي يهدف إلى تبادل الخبرات ونقل المعرفة والتواصل وبناء العلاقات في إطار عملي محفز. ويستضيف المقهى عدداً من مسؤولي الهيئة لمناقشة الأفكار والمبادرات وتقديم الخبرات التي مروا بها أثناء عملهم لدى الهيئة الملكية بالجبيل، وتوجيه مجموعة من النصائح والارشادات للموظفين والمهندسين بالهيئة.ولم يكن دور السعودية في إدارة المعرفة يقتصر على تطبيقها بل أصبحت بعض الجهات الحكومية تحصل على جوائز إقليمية متخصصة في مجال إدارة المعرفة. فلقد حازت أمانة الأحساء، على جائزة " التميز في تطوير إدارة المعرفة والإبداع والابتكار "، التي ينظمها معهد جائزة الشرق الأوسط للتميز ضمن جائزة الشرق الأوسط السابعة لتميز المدن والبلديات. وأشارت الأمانة في خبر لها نشر على بوابتها الإلكترونيةبهذه المناسبة أن نيل الأمانة لهذه الجائزة يأتي بعد ترشيحها من قبل الخبراء والمختصين ولجنة تحكيم الجائزة وذلك استناداً الى معايير المعهد والذي وضع في أولوياته استخدام أحدث التقنيات وتحديث البنية التحتية لنظم المعلومات لتحسين إدارة العمليات المعرفية ودعم أسس الإبداع المؤسسي والعمل على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الفعالة في عصر الحكومة الإلكترونية والمدن الذكية 2020.والمكتبات والمؤسسات المعلوماتية أخذت على عاتقها تطبيق مفهوم إدارة المعرفة في منظماتها وذلك لمعرفتها التامة بأهمية الرأس المال الفكري وقدرته على تطوير وتحسين بيئة العمل وتقديم أفضل الخدمات لمستفيديهم، بالإضافة إلى زيادة فاعليتها تجاه المجتمع المدني. فالاتحاد الدولي للمكتبات ومراكز المعلومات (افلا) والذي يعتبر الهيئة الدولية الرائدةىالتي تهتم بمصالح خدمات المكتبات والمعلومات ومستخدميها أنشأ قسماً خاصاً لإدارة المعرفة وذلك بغرض زيادةالنقاش حول المعرفةبين أعضائه والآخرين المهتمين بالجوانب العالمية لإدارة المعرفة التي تشمل استراتيجيات المشاركةفي المعرفة وعملياتها وممارساتها، وتطبيق ثقافة إدارة المعرفة في المكتبات وبيئات المعلومات. ويعتبر قسم إدارة المعرفة بإفلا منبرًاعالميًا لدعم تنمية وتنفيذ ثقافة إدارة المعرفةفي المكتبات ومراكزالمعلومات. ولقد وفر القسم منصة دولية للتواصل مع المكتبات ومراكز المعلوماتوذلك لزيادة الوعي حول هذا المفهوم وذلك لإيمانها بأهميته بالنسبة لأمناء المكتبات والمؤسسات التي تستخدمها. وتعتبر المكتبة الوطنية الماليزية إحدى المؤسسات المعلوماتية الرائدة في تطبيق مفهوم إدارة المعرفة حيث قامت بإنشاء أداة لتطوير نظام إدارةالمعرفة وذلك لتحسين تبادل المعرفة والخبرات وأفضل الممارسات بين العاملين في المكتبة. وتستخدم المكتبة في هذه العملية منصة إلكترونية بحيث تكون قناة اتصال رسمية لتبادل المعلومات داخل أقسامها المختلفة. ويمكن الوصول إليها بسهولة وفعاليةفي أي وقت وفي أي مكان. هذه الأداة تسمح للعاملين بالمكتبة إدارة الاجتماعات، وتنفيذ المشاريع،وتبادل المعلومات وإجراء المناقشات. وفي تقرير المكتبة السنوي أفاد أن المنصة قد استخدمت بشكل فعال وإيجابي لنقل المعرفة بين الموظفين في مختلف الأقسام بالمكتبة. وفهم إدارة المعرفة بشكل واسع من الممكن أن يسهم في تحقيق النجاح والتقدم للمؤسسات والمنظمات وقطاع الأعمال ومثال ذلك المسح الذي أجرته جامعة أكسفورد حيث يوضح أن حوالي 74 ٪ من المشاركين يعتقدون أن إدارة المعرفة هي طريقة مهمة لنجاح وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للمنظمات والمؤسسات الربحية والغير ربحية. وفهم المعرفة هو الخطوة الأولى في الإدارة الفعالة؛ وهناك معوقات تقلل من تطور هذا المفهوم في المنظمات. فبعض المسؤولين في الجهات الخاصة والعامة يعتقدون أن إدارة المعرفة مكلفة وأن إجراء نظام لإدارة المعرفة يتطلب شراء أجهزة تقنية لتنفيذه ذات تكاليف مالية عالية. ولا يعلم هؤلاء المسؤولين أن تطبيق نظام إدارة المعرفة يمكن أن يساعدهم للتغلب على بعض المشاكل الاقتصادية. وكمثال على ذلك الدراسة التي قام بها ماجد حمزة عام 2012 حول تأثير المعرفة في إدارة الشركات الصغيرة والمتوسطة في المملكة العربية السعودية والتي استنتج من خلالها أن تطبيق بعض نماذج إدارة المعرفة قد يسهم بشكل كبير في التنمية المالية للشركات وذلك عن طريق الاستفادة من الخبرات لدى الأفراد لابتكار وتوليد الأفكار والمنتجات الجديدة لتحقيق التنمية والرفاهية للمجتمع. ومن الأفكار المغلوطة لدى المسؤولين في الجهات الحكومية والخاصة حول تفعيل إدارة المعرفة في مؤسساتهم أن هذا النوع من المفاهيم يتطلب مدراء مطلعين وذوي خبرة لتقديم المشورة والتوجيه وتوزيع استخدام المعرفة بعيداً عن نشر هذا المفهوم على جميع موظفي المنشأة. فهناك بعض مدراء المعرفة الذين يقللون من تطوير هذا المفهوم مع خبرتهم العالية حيث يعتليهم السلوك الأناني الذي بدوره قد يقلل من تبادل المعلومات مع الآخرين. لذا على المسؤولين في المنظمات أن يختاروا المدراء الأكفاء لنشر مفهوم إدارة المعرفة في المؤسسة وإنشاء بيئة طبيعية لتقليل سلوك الأنانية بين الموظفين وزيادة القدرة على المشاركة وتحسين علاقات الموظفين بعضهم ببعض.
*مجلة اليمامة