في مطلع القرن العشرين, ازدادت أعداد المرضى داخل مستشفيات الأمراض العقلية بشكل واضح, وقد أوضحت التقارير وجود 477 معهد متخصص بالأمراض النفسية والعقلية بأمريكا ,و احتوت هذه المعاهد والمستشفيات في مجموعها على 451,672 مريض وقد أمضى نصفهم تقريبًا مدة 5 أعوام على الأقل داخل المستشفى.وقد شغل المرضى المصابين بالأمراض النفسية حوالي 55% من عدد الأسرة الموجودة في كل مستشفيات أمريكا .وتحول الوضع داخل مستشفيات الأمراض العقلية بأمريكا إلى موضع للجدل العام حيث أعداد المرضى فى تزايد ووسائل العلاج ونسبة الشفاء تنحدر تماماً ؛ حيث كانت المدة التى يقضيها معظم المرضى في المستشفيات النفسية تتراوح بين 3-5 سنين وتنتهي بالموت او الخروج دون تحسن واضح ؛

قبل عام 1930 اقتصرت الجراحات المخية بهدف علاج الأمراض النفسية على تجارب فردية قام بها أطباء مختلفون وكان أبرزها ما قام به الطبيب السويسري (جوتليب بوركهاردت), حيث أجرى الطبيب جوتليب أول محاولة جراحية منهجية في الطب النفسي الحديث أجرى الطبيب عملياته على 6 من المرضى المزمنين الموجودين تحت رعايته في المستشفى. فقام بإزالة جزء من القشرة المخية لكل مريض. وقد انطلق الطبيب جوتليب في عملياته بعد التوصل لثلاث وجهات نظر تشير إلى علاقة المرض النفسي بالمخ لكنها فشلت جميعها لان الاساليب والأدوات الجراحيه المستخدمه حينها كانت متواضعه جدا للعبث داخل المخ البشري ؛ 

دعنا نسافر بالزمن خمس سنوات للأمام  بعيداً عن ذلك العبث بعقول المرضى ليظهر علينا الطبيب البرتغالي "إيغاس مونيز " طبيب الأعصاب البرتغالي الذي قد نشر العديد من الأبحاث في مجال طب المخ والأعصاب وعلم الجنس وعلم السير التاريخية وعلوم ألعاب الورق ؛ كان ظهور إيغاس عام 1935 بصمة لن تُنسى فى مجال الجراحة المتعلقة بالطب النفسي ؛ جدير بالذكر أنه قد ترشح  لجائزة نوبل مرتين عن تطويره طريقة لتصوير الأوعية الدموية بالمخ ولكنه فشل في الحصول عليها لانه لم يكن ماهراً كفاية فما هو الطريق الذي سلكه إيغاس للحصول على جائزة نوبل عام 1949 ؟ 

عام 1935 وجد إيغاس انه لا مفر من الوصول لنوبل بعد فشله مرتين للحصول عليها لكنه قرر أن يسلك مساراً غير حياة الاف المرضى المصابون بأمراض نفسية عديدة كالوسواس القهري والأكتئاب واضطراب ثنائي القطب والفصام وغيرها من الأمراض التي قرر أن يجمع لها حلاً واحداً وهو " الجراحة الفصية " " lobotomy "  وهي عملية جراحية تهدف لفصل الفص الجبهي او الأمامي للمخ "frontal lobe " عن بقية أجزاء المخ لكن فيما كان يفكر إيغاس لأجراء هذه الجراحه ؟ 

كما ذكرت أن الجراحة تهدف للفصل بين الفص الامامي للمخ " frontal lobe " عن بقية أجزاء المخ لكن ماوظيفة هذا الجزء الذي سيتم عزله عن باقي المخ ؟

يُشكل الفص الأمامي للمخ الجزء الأهم من القشرة المخية 'cerebral cortex "  حيث يقع في مقدمة الرأس ويشكل  الدور الاهم للتخطيط للمستقبل هذه كلمة عامه ماذا أعني إذاً ؟ يحتوى الفص الأمامي على منطقة تسمى " Broca's area " وهي المنطقة المسئولة عن التخاطب فى المخ وإنتاج الكلام  ؛ أضف الى ذلك انه يتحكم فى بعض الحركات الارادية كالمشي أو الجري والتناسق بينهما كما أنه الجزء المسئول  عن الذاكرة وخاصة ذاكرة المدى الطويل وحفظ الذكريات وعلى ذلك فأنه مسئول عن العاطفه والمشاعر خاصة الخوف و إظهار الحب وتبادل المشاعر مع الأخرين وعن الانتباه والتعايش مع المجتمع إذاً هناك علاقه بينه وبين حل المشاكل وأيضا السلوك الجنسي مرتبط بهذا الفص من المخ ؛ إختصاراً الفص الأمامي يتحكم في تكوين شخصيتنا وقدرتنا على التواصل مع المجتمع لغوياً وعاطفياً وحتى جسدياً ؛ إذا أكان من السهل على إيغاس أن يقتحم المخ ليفصل ذلك الفص عن بقية المخ أم كان مدركاً تماماً للعواقب المحتملة ...أعتقد أن هناك رأي اّخر دعنا نستنتج معاً ! 

بالتأكيد لو كنت طبيب مختصاً بعلم الأعصاب وشغلت عدة مناصب أكاديمية، وكتبت العديد من المقالات الطبية، وشغلت أيضاً عدة مناصب تشريعية ودبلوماسية في الحكومة البرتغالية ,وعملت كسفير البرتغال في أسبانيا خلال الحرب العالمية الأولى وقمت بتمثيل البرتغال في مفاوضات ما بعد الحرب ثم بعد ذلك يتم ترشيحك لجائزة نوبل مرتين عن تطويرك طريقة لتصوير الأوعية الدموية بالمخ ولكنك فشلت في الحصول عليها إذا فكيف تسلك الطريق إليها بعد كل ذلك ؟ هنا قرر إيغاس أن يطرح عمليته الاولى من نوعها وهي " lobotomy " أو " الجراحه الفصية " عام 1935 ليحصل على جائزة نوبل عام1949 عن تلك الطفرة التي أحدثها فى مجال الطب النفسي لكن هل أستحق إيغاث نوبل فعلا أم أستحق الأعدام والعقوبة ؟ 

لاتتسرع فى الحكم عليّ رجاءً ؛ دعنا نحلل الأمر بقليل من المنطق ؛ حسناً بعدما غُصت قليلاً فى البحث عن السيرة الذاتية للطبيب إيغاس وجدت أن الطبيب إيغاس كان في ذلك الوقت وهو الوقت الذي أُجريت فيه تلك الجراحه كان قليل الخبرة بالعمليات الجراحية العصبية في ذلك الوقت كما كانت تعاني يده من تشوهات إثر الإصابة بالنقرس, وساعد إيغاس في العملية طبيب التخدير (بيدرو أليميدا ليما) والذي سبق وساعده في أبحاثه عن تصوير الأوعية الدموية المخية ؛ إذا فكيف لجراح أعصاب لا تقوى يده على تمالك مشرط الجراحه بدقة أن يقرر أن يعبث فى المخ وهو أدق جزء فى جسد الأنسان ولو أن الأمر كما ذكرت فكيف كانت النتائج إذاً ؟ 

من المؤكد قطعاً وبلا شك أنك تعبث فى الفص الأمامي كما ذكرنا وظائفه الحيوية والعاطفية وحتى الحركية اذا ذلك سينتج عنه قطعًا إخلالًا بشخصية المريض وطبيعته. ولذلك وصفت نتائج هذه العملية بالمختلطة, فقد توفي العديد ممن خضعوا للعملية كنتيجة للعملية ذاتها وقام آخرون بالانتحار,و أصيب البعض بتلف شديد بالمخ وإعاقات ,وظهر على البعض ولمدة أسابيع وشهور أعراض الذهول والاضطراب وعدم القدرة على التحكم في عملية الإخراج, وازدياد الشهية مما أدى إلى اكتساب الوزن بشكل كبير, كما كانت النوبات الصرعية عرضًا جانبيًا واضحًا في الكثير من المرضى؛ بينما استطاع آخرون مغادرة المشفى و العودة للعمل وتحمل المسؤوليات ولكنهم لم يتجاوزوا الواحد في المئه وأخيرًا بقي أغلبية المرضى في حالة متوسطة بين ذلك, بحيث ظهر تحسن طفيف بالأعراض بالإضافة إلى حدوث قصور بالحالة العاطفية والعقلية وهؤلاء هم الأغلبية ؛

أما عن متابعة الأطباء والنتائج الأحصائية فقد قام طبيب الأمراض النفسية البريطاني (موريس بارتريدج) بمتابعة حالة 300 مريض خضعوا للعملية, وأوضحت نتائج المتابعة نجاح العملية في الحد من تعقيدات حياة المريض المصاب بمرض نفسي ولكن انخفضت بشكل ملحوظ درجات الوعي الذاتي والاستجابة والعفوية وعانى المرضى من جمود وقصور في القدرات العقلية والعاطفية مما وصف بدقة ب " البلاهه " ؛وقد قال طبيب الأمراض النفسية الروسي (فيدور كوندراتيف) أن آلاف المرضى المصابين بالفصام والذين خضعوا للعملية قد فقدوا تمامًا ما تبقى من قواهم العقلية بشكل لا رجعة فيه؛.رغم غرابة وإجحاف هذه العلمية إلا أنها لاقت رواجًا كبيرة في وقت قصير, ويُعتقد بأن الأطباء النفسيون وافقوا على هذه العلمية لإيجاد حل وعلاج لآلاف المرضى بالمستشفيات النفسية في القرن العشرين كما كان لهؤلاء المرضى القليل جدًا من القوة لرفض هذه العملية وهذا التدخل المتسارع والمتهور من الأطباء . 

خضع ما يقرب من 40.000 مريض في أمريكا لعملية فصل الفص المخي الجبهي. بالإضافة إلى 17.000 مريض في بريطانيا .و إجمالي 9,300 مريض وفي فنلندا والنرويج والسويد , من بينهم 4.500 مريض في السويد في الفترة ما بين 1944 و 1966 أغلبهم من النساء.وشملت هذه العمليات أيضًا مرضى من الأطفال . كما أجريت العملية على 2500 مريض بدولة نورواي , و4500 مريض بالدانيمارك أغلبهم من النساء صغيرات السن والأطفال المتأخرين عقليًا 

وأنتهى الأمر بمنع إجراء عمليات فصل الفص المخي الجبهي في الاتحاد السوفييتي عام 1950,ثم منعت في ألمانيا واليابان.وبحلول 1970 كان إجراء هذه العملية قد توقف تمامًا لما تبعها من كوارث فاقت بكثير ألم ذلك المريض الذي كان يعني من نوبات صرعأ و يحاصره القلق أو الوسواس القهري لكنه بعض تلك الجراحه كانت نتائج التحسن وهمية لأن المريض كان هادئاً فقط ؛ كان هادئاً لأن الفص الأمام قد فُصل بعيد عن المخ تماما فأصبح المريض عديم الشعور أبلهاً ؛ لا يقوي على التحكم في حدتهِ أو عاطفته بل أصبح لا يحب أو كما وصف الأمر " لايعرف ماهو الحب " لا يدري كيف يتواصل مع المجتمع أو كيف يتكلم كما سبق أصبح فعلاً " أداة بدون شعور يمكن التحكم فيها " هكذا دُمرت حياته إلى الأبد ولا أمل فى العودة تماما ً في النهاية كما تم فصل الالياف العصبية لهذا الفص بعيدا عن باقي أجزاء المخ تم فصل الشخص أيضاً عن الحياة .

تم تجسيد معاناة هذا المريض فى مشهد لا يتعدى دقائق في رائعة " جاك نيكلسون " التي أستحق الأوسكار عليها " one flew over the cuckoo's nest " نجد هذا المغامر جاك نيكلسون الذي يدّعي الجنون للهرب من قضية إقامته علاقة مع فتاة قاصرة فيذهب بذلك إلى المصحة النفسية للتأكد من سلامة عقله لكن هناك حدث مالم يكن في الحُسبان ؛طوال الفيلم يحاول جاك نيكلسون الهروب مراراً وتكراراً لكنه يفشل كل مرة حتى مل منه طاقم الأطباء والتمريض الذي كاد أن يقتل رئيسة التمريض فقرروا معاقبته إلى الأبد هنا يخرج جاك نكيلسون من غرفة العمليات مهزوزاً يترنح يميناً ويساراً ,لا يدري أين هو أو بماذا يشعر لقد عاقبوه حقاً للأبد ؛ نعم هو ماخطر ببالك الأن لقد أجرو له تلك اللعنه والنقطة السوداء فى تاريخ الجراحه وتم فصل فصه الأمامي عن باقي مخه لقد خضع لعملية "lobotomy " كما ذكرنا ؛ هنا توارت أحلامه وأضمحلت أبتسامته وفقد شغفه فى الهروب إلى الأبد بل شغفه فى الحياة أيضاً ؛ فى مشهد مؤثر يجد رفيقه فى المصحه هذا الأمر فيصيبه الحزن كيف من كان يملأ المكان بالبهجة والسرور أو حتى الشغب سيصمت إلى الأبد ,كيف لتلك العيون التي كانت تتلالأ فى الشمس الأن أُرهقت وتود المكوث فى الظل الأبد ,هنا يقرر صديقه أن ينقذه من هذه الحياة التى أشبه بالموت فيضع وسادة بكل قوة على وجهه وعنقه ليكتم بها أنفاسه ويموت بسلام فالموت هنا أرحم له من تلك الحياة التى بلا حياة ؛ ثم على أمله الذي مات معه يقرر صديقه هذا الهرب من هذا السجن الأبدي الذي لا ينتهي إلا بالموت في بداية طريق مظلم ونهايته مضيئة يُسرع صديقه للهرب ركضاّ بعيدا هكذا كانت ترجمة الفيلم الحرفيه " أحدهم طار فوق عش الوقواق " لكنه لم يكن البطل من طار بالتأكيد لكن فى النهاية أحدهم قد فعل ؛

هكذا جائت تلك التحفه الفنية بوصف مايعانيه من تُجرى له تلك الجراحه ومابعدها وكيف تصبح حياته جحيماً بلا معنى سوى الألم والبلاهه إلى أن يموت أو ينتحر كما فعل عدد لابأس به ممن خضعوا لتلك الجراحه ؛ هكذا كان حال الطب النفسي وجراحته فى هذا الوقت فالعبث بعقول الناس كان أمرا سهلا ليس صعباً ؛ ربما تدمر حياة مريض كان أكبر همه أنه لا يستطيع التغلب على الوسواس الذي يصيبه بين الحين والأخر الأن بعد هذه الجراحه أصبح لا يدرك تماماً ما يعاني أصلاً أو بماذا يشعر ؟ وربما أيضاً بعد ذلك الأمر تصبح بطلاً شعبياً ربما تحصل على نوبل نظيراً لذلك وهنا الأمر كما يقولون " على عينك ياتاجر " فلا يحتاج لأِيضاح من المقصود بالكلام .

الكثير من إيغاس قد مروا عبر التاريخ ومازالوا يحصدون الملايين من وراء معاناة المرضى النفسيين كل مافى الأمر أن يختفى شعورك بالأكتئاب ولا بأس أن فقدت معه شعوك بالحب أو الخوف أو فقدت قدرتك على الكلام بشكل ما أو حتى صرت أبلهاً لايبالي كل مافي الأمر أن تنظر للجانب الأيجابي وهو أن الأكتئاب قد زال ؛ لانزال فى تطور لا بأس به من تصنيف الأمراض النفسية حتى إذا صرت لم تتناول طعامك اليوم لسبب ما فربما أنت تعاني من فقدان الشهية العصبي أو نوبة من الأكتئاب لا بأس بها بل كل مافي الأمر أنك إنسان  تشعر شعوراً طبيعياً لكنك إن أدركت ذلك وتعاملت معه بطبيعتك البشرية فلن تستطيع شركات الأدوية أن تعمل على تصنيع نوع جديد من عقار " الفولوكستين " مخصصاً لامثالك ممن يعانون من شعور بسيط بالحزن هكذا تجري الأمور والضحية واحده وهي " المريض " لن يعتيرنا إذاً أي إستغراب إذا ظهر إيغاس جديد يخبرنا أنه يمكن أن تصبح سعيداً للأبد إذا أزلنا نصف قشرتك المخية فربما نصدق مجدداً وربما تنجح الأمور أيضاً لكن على حساب أعراض جديدة لن نتعرف عليها إلا بعد شهور أو عام من إجرائك تلك الجراحه وحينها سيكون الطبيب الجديد لم يصبر وقد حاز نوبل مرة أخرى ولن يعاقبه أحد بعدها ربما يكون توفى أو هاجر إلى مؤتمر أبدي في كوبنهاجن أما أنت فكيف تصبر حينها يا مسكين ؟ كل مافى الأمر إذاً " أن هذه عادة الأشياء دائماً " وستتكرر مهما مرت علينا من قصص تُشبهها .