إنّ الحياةَ تقسو على أَحدِنا قسوةَ الكُلِّ، ترميهِ خارجَ مُحيطه وتزلزل ذاتَهُ، لئيمة هي الحياة، ماذا إن لم يجد من يقف بجانِبه ويفهَمه؟
في تلك اللحظة، ليس له سوى عالماً آخر يستمتِعُ به ويبني أحلامه الوهميّة على غيمة سحاب مُفعمة بالأمطار المُتراكمة طيلة السنوات التي مرّت.
صيفُ عام 1993، الفتى الصغير يُتابع مباراة الارجنتين والبرازيل في الكوبا أميريكا، الوالد يهتف للبرازيل والابن يتابع للاستمتاع..
انسَحر الفتى باللاعب صاحب الرقم 5، بأسلوبه السلس والبسيط، إحترَمَهُ واعتَبَرهُ بطلِهِ الخارق.
ليس بالضرورة أن يكون أفضل لاعب في العالم، أو حتّى تلك الأسطورة التي يسعى الجميع إلى تقليدها، وبكل تأكيد بعيداً كل البعد عن الهالة الإعلامية المصنوعة حول هذا وذاك، لكنه في النهاية بمثابة القدوة والمثلُ الأعلى.
كان يُفكِّر بطريقة مُختلفة، ولم ينظر إلى النجاح من منظور الأرقام، لذلك لم يأسِر قَلبَهُ لاعباً بقدر ما آمن بموهبة وعبقرية فيرناندو ريدوندو.

لقد كانت مسيرة هذا النجم الكرويّة مُعَرَّضة لتهميش واضح ومقصود، فهو الذي قال لا؛ رافضاً الإنصياع إلى أوامر مدربيه، لقد ترك ريدوندو أثراً كبيراً على عقلية الفتى الصغير الكرويّة.
وبعد تألقه الواضح في كوبا أمريكا 1993 أسرع ريال مدريد لخطف هذه الجوهرة من نادي تينيريفي الإسباني، اللاعب الذي تألق في صفوف نادي ريال مدريد بشكل كبير، ليحقق معهم بطولة دوري أبطال أوروبا سنة 1998و2000 بعد غياب استمر 32 عام!
في تلك البطولة يتذكر السير أليكس فيرغسون المباراة التاريخية بين اليونايتد والريال في الأولد ترافورد سنة 2000، ليتغزل في قدرات منافسه مؤكدا أنه كان يتمركز في جميع أنحاء الملعب، لدرجة أنَّ كل هجمات الإنجليز تكسرت أمام أقدامه، وبمجرد انتقاله من الدفاع إلى الهجوم، قام بعمل أجمل لوحة فنيّة عبر سنوات التسعينات في الأبطال، عندما راوغ مدافع مانشستر بكعبه، ومرر كرة حريرية إلى راؤول أمامَ مرمى خالٍ.

نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2000 بين ريال مدريد وفالنسيا في باريس، شَهِدَ الجميع لحظات تألق عبقرية "لأمير البيرنابيو".

يقول كابيلو: الأرجنتيني صاحب الرقم 5، أفضل لاعب تكتيكي شاهدته عالإطلاق، كما وقال السير أليكس فيرغسون أن ريدوندو يمتلك مغناطيس في كلتا قدميه.

لم تكُن مسيرة ريدوندو مع منتخب التانجو حافلة بالإنجازات كما في الأندية، يكمنُ السبب الأول
بعد أن أبدى رأيَهُ في تكتيك كارلوس بيلاردو حيث قال بصراحة، "هو مدرب يفكر فقط في الدفاع، يَقتُل المتعة، لذلك لا أستمتع أبداً باللعب تحت قيادته".
الأمر الذي أدّى إلى استبعاده من المشاركة في مونديال 1990.

أمّا السبب الثاني فيعود إلى شخصَنة الأمور من جانب المدرب باساريلا المدير الفني القدير خرج بِقانون ضَيّق، ينص على عدم إشراك أي لاعب يرتدي أقراط في أذنيه أو ذو شعرٍ طويل.

الأمر الذي أدّى إلى استبعاده من المشاركة في مونديال ال98.

يتذكّر الفتى جيداً هذه الواقِعة وكأنها بالأمس. وكنوعٍ من الأسى والحسرة على استبعاد لاعبه المُفضَّل، وإلى الآن لا يزال يمقِتُ المدرب باساريلا على اللحظة التي غدر فيها لاعِبَهُ الأمهر، لسبب غريب وغير منطقي.

قَتَل التخصص في اللعبة الكثير من المهارات والابتكارات، ريدوندو... الحجر الأهم على رقعة الشطرنج والورقة المُتبَدِّلة "الجوكر"، يتحرك في كل مناطق الوسط، يلعب في الدفاع ويصعد إلى الهجوم، يقطع الكرات ويبني الهجمات من الخلف، إنَّهُ النسخة الأكثر وضوحاً لما عُرِفَ فيما بعد بالإرتكاز العصري "المُمَرِّر"، الذي يستطيع التَكَيُّف مع مختلف الخطط والرسومات الفنية، حيثُ يتحوَّل لصانع لعب وممول حقيقي للعمق الهجومي، في عبقريّة وسهولة خططية سبقت عصره، بل وظلت مرتبطة به ولم يستطع حتى الآن أي لاعب أن يصل إليه، فهو لاعب لم ولن يتكرر حتى أصبحنا نشتاق إليه لعدم وجود مثيل له.

لم يكن ريدوندو سوى لاعباً أنيقاً، أتى سابِقاً عصره، انضم ريدوندو إلى قائمة من رفضوا صياعة أوامر مُدربيهم، كان من اللاعبين الذين يَصِفون بساطة اللعبة وسهولتها، ويُبتعد تماما عن فلاسفة التكتيك، كان مُتمرد يرفض الانصياع لأي سلطة، وينحاز فقط لكل ما هو مقابل للتيار، وينظر إلى هذه الرياضة في كونها "لعبة" لا أكثر ولا أقل.

وفي عام 2004 قَدِم الوالد مُسرعاً إلى ابنِه حامِلاً معه الخبر القاسي..
يا بُنَيّ ها هو صاحب الشعر الطويل يُقدِم على الاعتزال، الوداع أخيراً حَضَرَ بينكم!
فأجاب الفتى بعيونٍ تغمُرُها الدموع: الذين نُحِبُّهم لا نُوَدِّعَهم.. لأننا في الحقيقةِ لا نفارِقَهُم، لقد خُلق الوداع للغرباء وليس للأحبّة.