القفز على التعليم، القفز على الخبرة، القفز على الأخلاقيات، القفز على النضج، القفز على بذل الجهد..هل تبقى شيء آخر لم تقفز عليه التكنولوجيا!؟

تابعت الفيلم الوثائقي The Inventor: Out for Blood in Silicon Valley-2019
والذي يحكي قصة رائدة الأعمال الأمريكية إليزابيث هولمز، الفتاة التي بدأت تأسيس شركتها في مجال التقنيات الطبية، وتحديدات كشوفات تحليل الدم، عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها. كانت الفكرة الثورية التي تقدمت بها إليزابيث هي اختراع حاسوب يمتلك القدرة على تحليل الدم لاكتشاف ما يقرب من مائتي مسبب للأمراض قبل ظهور أعراضها على مدى العمر، علما بأن أخذ عينة الدم من المرضى لا يتم عبر الحقن من الوريد، إنما -وهنا الابتكار الأهم بحسب إليزابيث هولمز- يتم بالوخز بالإصبع!

استمرت إليزابيث هولمز في خداع الحقل الطبي والعلمي ومجتمع الأعمال في الولايات المتحدة الأمريكية مدة أحد عشر عاما، لم يتم تطوير نسخة جيدة من الحاسوب، فضلا عن أن أخذ العينات من وخز الإصبع قد فشل وعاد الأسلوب المستخدم في كل أنحاء العالم عبر سحب الدم من الوريد.

كان إليزابيث هولمز ترى نفسها ستيف جوبز الطب، وقد استطاعت أن تجمع رأس مال للشركة (ثيرانوس) بلغ تسعة مليارات من الدولارات، واتخذت موقعا لها بين مخترعي وادي السليكون.

المثير للقلق في هذه القصة، تلك السجية الضبابية لرواد أعمال التقنية اليوم؛ فهم قد خرجوا من السلك التعليمي ويرفضون التقيد بأي نظام دارسي، ثم لا يأبهون لقيمة تراكمية الخبرات على أي مستوى، كما أنهم يندفعون خلف بريق "الفكرة" الثورة حتى لو كانت مستحيلة، دون بذل ما يستحق من جهد ودأب وصبر. إنهم أجيال ضد التضحية، وضد الكفاءة، وضد الأخلاقية، إذ همهم الأول هو الوصول إلى قوائم الأعلى ثراء على مستوى العالم وفق تصنيفات مجلات المال والأعمال، ثم الدفع بأسهم شركاتهم نحو الجنون.

إن الفشل والاحتيال الذي مارسته إليزابيث هولمز مخيف بكل مقاييس مجتمع الابتكار في أمريكا، وهو جدير بالتأمل والحذر من تلك الهالة التي صنعها الإعلام لرواد أعمال التكنولوجيا، مما أفقدهم الحس الإنساني لصالح تجميع الثروة وتسجيل الاختراعات.

حين يصبح الكذب مهارة أجيال بأكمالها، مزينة ببهرجة التكنولوجيا وتقنيات الإنترنت- يصير لنا أن نتصور أي عالم سيعيشه الغد بالشخصيات الافتراضية، والمجتمعات الافتراضية، والنجاح الافتراضي! في حين أن الشيء الوحيد الحقيقي في كل هذا الافتراض، هو : الكذب.