على مر التاريخ كانت الممالك و الدول تتفنن في بناء سجون عاتية منيعة للزج بالمجرمين في غياهبها كعقاب لهم على افعالهم الشنيعة ، و ذلك الاصل في فكرة السجون اساسا . فكلمة السجن تطلق على المكان الذي تتم فيه سلب حرية الإنسان ، لذا فعندما يذكر احدهم هذه الكلمة فان اول ما يتبادر الى ذهنك هو  ذلك  المكان المظلم الموحش الكئيب المعذب للنفس ، كتجسيد لفكرة العقاب لديك و هو التصور العقلي الفطري السليم .

الشعوب المظلومة تسوء اخلاقها

ان السياسة الفاسدة التي تم انتهاجها من قبل النظام السابق  ( سياسيا – اقتصاديا – اجتماعيا ) جعلت المجتمع الهرمي يقف على ركيزة قانون الغاب ، فلا طريق للصعود الى الأعلى الا بانتعال جماجم الغير . فنتج عن ذلك مختلف الآفات ، فقر و سوء تعليم و تدني للمستوى الاجتماعي للعائلات ، ما وثق عرى اليأس و الاحباط لدى المواطن .
 ان بناء واقع اليم مثل ذاك لا يمكنه له باي حال الا يصب عكس صالح المواطن ، و ينشئ جيلا بعيدا كل البعد عن القيم الاخلاقية التي تشكل هويته ، ميال الى المجون و المخدرات هربا من ذلك الواقع .

لن ينجر عن الانحلال الاخلاقي الا جريمة اكثر من ذلك الانحلال . هذا ما نطق به واقعنا في السنوات الاخير ، فقد ضربت مساوئ الاخلاق اطنابها ، قتل بابشع الطرق و على اهون الاسباب ، سرقات تحمل في طياتها اكثر من الفعلة ، فحادثة سرقة شيخ مسن يلفظ انفاسه الاخيرة بعد ان تعرض لحادث مروري هو جرح و طعنة في كبد الانسانية ، و نقلة خطيرة جدا في مستوى الجريمة في مجتمعنا ، ما يستدعي انتقالا طارئا من دراسة الجريمة الى دراسة عقلية المجرم الذي يقدم على فعل بهذه الشناعة .

التمس لاخيك سبعين عذرا ، و لكن هل يعذر الانسان بطعنه للانسانية ؟

ان دلالة الجريمة تستحق العقاب اكثر من الجريمة ذاتها ، فما تحمله من ترجمات لتفكير المجرم بشكل خاص و لفكر المجتمع عموما ، و مدى اليأس و الاستماتة من اجل الحصول على المادة هو ما يطلق صافرة الانذار لحالة استنفار قصوى يجب ان تتخذها الدولة و المجتمع المدني لتدارك الاوضاع و قد تجاوز الامر كل الخطوط الحمراء . ذلك ان الامر لا يتوقف فقط على ما نراه اليوم ، بل انه يتجاوز ذلك ، كون وباء الجريمة معد و سريع الانتشار ، و هذا من بين اهم  المعايير التي  يمكن ان نقيس بها مدى قدرة المجتمع على التطور  و تعايش افراده فيما بينهم بم يكفل حقوقهم جميعا على حد سواء .

ربما يود الذين اجرمو ان يكونوا من التائبين

قد يقع الانسان في الخطئ ، ما يتوجب عليه دفع ثمن ذلك الخطئ من اجل ضمان عدم تكراره . و لكن الكارثة العظمى ان يكون مكان دفع الثمن هو مكان لاخذ فترة نقاهة و استراحة محارب للتزود من اجل اكمال المسيرة الاجرامية بنجاح . هذا و للاسف هو واقعنا اليوم ، فالكثير من الناس يروون قصصا عن مجرمين اذنبو في حقهم و هم يشعرون بالخوف من ردة فعلهم بعد خروجهم من السجن .

ان ظاهرة استفحال المجرمين و تنمرهم اصبحت واضحة للعيان ، فلا تحتاج الى اي جهد يذكر كي تجد شخصا تعرض للاعتداء و فوق الاعتداء تهديد ، و لا ثقة له في السلطات ، فهم مقتنعون بان المجرم سيدخل السجن و يخرج منه اشد بأسا و اصلب عودا و اعصى مكسرا ، و هذا قول المجرمين انفسهم .

 المعاملة الانسانية واجبة و لا يمكن محاربة النار بالنار ، و لكن هل يعقل ان نعاقب الانسان بما لا يسوءه ؟ و هل يحمل العقاب معناه في تلك الحالة ؟

لا يمكننا انكار ان هناك بعض حالات النجاح في اعادة تهيئة المجرمين لدمجهم من جديد في المجتمع كافراد صالحين ، الا انها تبقى حالات اقرب ما تكون الى الندرة ،  و بعيدة كل البعد عن تطلعات الشارع المطالب بامن اكثر . و اكبر دليل على ذلك هو عدد المجرمين الذين يعودون للاجرام مرات عديدة بعد خروجهم من السجن ، و ظاهرة – دخل للحبس و ربى الصحة – هكذا يصف المواطن حالة السجناء الذين تتضاعف قوتهم و اجسامهم بعد امضاءهم فترات في السجن ، فهل يصب ذلك في جانب خدمة الانسان و الانسانية ام العكس ؟

من امن العقاب اساء الادب

لا يمكننا بناء سجون سويدية ... حتى نبني عقلية سويدية

تعلو الكثير من الاصوات الداعية الى ضرب مثل السجون السويدية التي يحلم الكثير من العرب امضاء العطلة فيها !! لا عجب في ذلك فنوعية الخدمة المقدمة هناك تتجاوز بمراحل نوعية الخدمة المقدمة للنخبة الجامعية في اغلب دولنا العربية . هذه السجون قد اثبتت فعلا نجاعتها  و لكن حتى نفتح باب المقارنة في السجون يجب علينا ان نفتح باب المقارنة بين السجناء . و ما ان نفعل هذا حتى ندرك حجم الهوة ، و شتان بين هذا و ذاك .

و في انتظار القوانين الردعية و العقوبات التي تستطيع رسم سقف حقيقي لمستوى الاجرام ، يبقى امل المواطن في التغيير قائما ، و رغبته في حياة يضمن فيها العيش بكرامة وسط  مجتمع مستقر يأخذ فيه كل  شخص مكانه الصحيح الذي  يتبوءه بأفعاله .