حكى لي صاحبي عن جده الذي ترعرع في مزرعة أبيه حتى بلغ التسعين من عمره ، كان رغم ذلك نشيطا لا يشكو من أي علة ، يحرث أرضه ويؤذن في مسجده ،ويعود لوحده ، كبر أبناؤه وغادروا المزرعة تباعاً ، فهي لم تعد تناسب العائلة الحديثة ، والعيش فيها أصبح خارج الزمن ، قرر الابن الأصغر أن ينتقل مع والده إلى منزل قريب من اخوته ،أخبر أباه بذلك فخضع لرأيه على مضض ، وبعد انتقالهم بأشهر، بدأ الضعف يدب في جسده التسعيني ، حتى ساءت حالته وفقد القدرة على المشي ، وكأنه فقد هالة من النشاط كانت تمنحه إياها تلك المزرعة ، أتذكر هذه القصة وأنا أزور منزل جدي الذي عشت فيه طفولتي ، غادرته قبل ثلاثين عاما ، هناك إحساس غريب أو شعور داخلي يبث طاقة عجيبة داخل الجسم ،يضخ الدماء من جديد لتعود وكأنك كالطفل نشاطًا وحيوية ،وأتساءل ؟ هل المكان الذي عشنا فيه والجمادات التي تشكله ، يحتوي على شيئ منا ، هل التنقل من مكان إلى مكان ، يأخذ من أرواحنا وطاقاتنا مقابل ذكريات نستعيدها حينما نعود لهذه الأماكن ، لعل هذا المعنى الذي يقصده الفيلسوف غاستون باشلارحينما قال:"إن الذكريات ساكنة ، وكلما كان ارتباطها بمكان أكثر تعقيدا وتفصيلا كلما كانت أكثر وضوحًا و تأثيرا" والوضوح والتأثير قد يبلغ غايته فيمحو حالة الضعف أو الحزن و الألم التي نعيشها لذا :في كل مرة تفقد فيها نفسك وتحس بحالة من الضعف والتعب ،جرب أن تزور محضن ذكرياتك ،ومرتع حياتك القديمة.
عبدالله الصقعبي