ترك تنظيم داعش شيوخ العشائر في بداية سيطرته على منطقة الجزيرة، بل عاملهم بكل مودة واحترام إلى أن تمكن من بسط نفوذه، وحين أدرك حاجته للمقاتلين أسس ديواناً العشائر؛ للتواصل مع شيوخ العشائر، واستمال بعضهم من خلال الميزات والعطايا.
العشائر في حقبة داعش
وقد عمل تنظيم “داعش” على التقرب من شيوخ العشائر، لكن قلة منهم من استجاب له؛ لحماية أنفسهم ولأجل تحقيق مكاسب شخصية، في حين قام التنظيم بملاحقة كل من رفض قراراته؛ لذلك ابتعد شيوخ العشائر عن التنظيم عبر الجلوس في بيوتهم أو مغادرة مناطقهم إلى خارج سوريا أو إلى المحافظات الأخرى.
استفاد التنظيم من تجربته في العراق بالتعامل مع العشائر من خلال التوجه إلى الصف الثاني في العشيرة في حال رفض بيت المشيخة والوجهة التعاون؛ لذلك برز لدينا شيوخ من إنتاج داعش.
تعامل تنظيم داعش مع العشائر حسب كل منطقة، فمثلا في الرقة بقيت البنية العشائرية فيها متماسكة؛ لعدم وجود موارد يتصارع عليها أبناء العشائر عكس محافظة دير الزور؛ لذلك بقي همُّ التنظيم كسب العناصر لا الموارد.
أما في دير الزور، فقد جلبت الموارد القتل والدمار على عشائر دير الزور التي سيطر بعضها على آبار النفط، فكانت عين التنظيم على النفط؛ ما جعل من ديرالزور ساحة حرب، فعمل على إنهاء مظاهر تسليح العشائر من خلال سيطرته على آبار النفط، ومن رفض تسليم الآبار قاتله وهجره كما حصل مع عشيرة “الشعيطات”.
استراتيجية داعش
همشت منطقة الجزيرة تنموياً على مدار عقود قبل عام 2011، فارتفعت نسبة الفقر فيها ما بين 15 إلى 40 في المئة، فيما ارتفعت نسبة الأمية إلى 39.7 في المئة، وزاد موجات الجفاف من سوء وضعها، ما جعل من المجتمع العشائري بيئة هشة وسهلة الاختراق، فوجد تنظيم داعش فيها ضالتالمنشودة لتحقيق أهدافه.
عمل التنظيم في البداية على استمالة شيوخ العشائر ووجهائها، ونسج معهم شبكة مصالح مع شيوخ ووجهاء يطمحون للسلطة، فبايعته 14 عشيرة في الرقة، منهم الشيخ حسن البريج والشيخ علي الخابور من عشيرة “البريج”، الشيخ عبد الكريم الراكان شيخ “السبخة”، الشيخ مصطفى الخلف العيسى عشيرة “البوعساف”، والشيخ خليل الهنداوي شيخ “الهنادة”، الشيخ هويدي شلاش شيخ “المجحم”، والشيخ بشير الفيصل شيخ “العفادلة”.
التنظيم استفاد من تجربته في العراق بالتعامل مع العشائر من خلال التوجه إلى الصف الثاني في العشيرة في حال رفض بيت المشيخة والوجهة التعاون؛ لذلك برز لدينا شيوخ من إنتاج داعش.
ويرجع البعض هذه المبايعات إلى قلة دعم المعارضة السياسية لأبناء العشائر، وخوف الشيوخ على أنفسهم وأهليهم من ممارسات التنظيم، ففي حال عدم المبايعة سيضطرون للمواجهة العسكرية ضده ما قد يُفجِّر صراعاً عشائرياً؛ لأن التنظيم يضم في صفوفه من أبناء العشائر، كما استغل أخطاء فترة الجيش الحر التي عانت منها المنطقة، فارضاً استقراراً حيث استغل حاجة الناس إلى الأمن، كما وفّر الخدمات الأساسية حين أعاد تشغيل المنشآت الخدمية وإدارتها وضبط أسعار المواد، واجتماعياً قدم التنظيم إعانات مالية وعينية للشباب المقبلين على الزواج، أما سياسياً فقد حقق تنظيم داعش درجة من الرضا من خلال انتصاراته في العراق، فبدا كمنقذ للسنة المضطهدين في المنطقة.
ولعب التنظيم على الشروخات في المجتمع العشائري مستغلا الانقسامات الداخلية التي أنتجها الصراع على النفط كما حدث مع قبيلة “العقيدات” في ديرالزور، حين انقسمت بين عشيرة “البكير” التي بايعت “داعش”، وعشيرة “البو كامل” التي ينتمي أبناؤها لجبهة النصرة.
كل ذلك بالإضافة إلى صورته الترهيبية التي روعت أبناء العشائر من خلال تطبيقه للأحكام العنيفة في الساحات العامة، و فرض النقاب واللباس الشرعي ومنع التدخين وبيعه وغيرها، والعقوبات الشديدة التي كانت تطبق في حق المتجاوزين للأحكام والقوانين التي وضعوها.
لقد ارتكب تنظيم داعش الكثير من المذابح، وكان أكثر دموية في مذبحة “الشعيطات”، ومذبحة عشيرة “البكير” في خشام، حيث راح ضحيتها أكثر من 200 شخص بحسب شيخ عشائري فضل عدم ذكر اسمه.
وأجبر شيوخ العشائر الموجودين في مناطقه على مبايعته، ويرى البعض أنه لا توجد لداعش حاضنة شعبية بسبب تناقضات الإسلام الداعشي المتطرف، وبساطة الحياة الاجتماعية التي تعيشها العشائر، ومحاولة “داعش” اغتصاب البيعات ما هي إلا صيحات إعلامية، تهدف إلى تحييد هذه العشائر عن قتاله في منطقة الجزيرة.
ويقول “حاتم الراوي”: اصطدم تنظيم “داعش” مع العشائر بشدة وعنف، لكن التنظيم كان أكثر قوة من الناحية التسليحية والتنظيمية، وهو ما يكمن في طاقة العشائر، ما جعل داعش تستبيح المنطقة، وتقوم بعدد من المذابح ، مما اضطر أبناء العشائر للهجرة من المناطق التي تسيطر عليها “داعش”، أو مهادنة التنظيم للحفاظ على حياتهم ولقمة عيشهم.
ويضيف “الراوي”: يوجد من أبناء العشائر من انضم إلى داعش واستفاد منها، ومنهم من قاومها وحاربها، مثل عشائر “العقيدات” في مناطق غرانيج وأبو حمام، و”الشعيطات” والجرذي الغربي والقرية.
العلاقة المتسمة بالاضطهاد بين داعش والعشائر وإسرافه في الانتهاكات، أجبرت شيوخ وأبناء العشائر إلى الهجرة من مناطقهم أو محاربة داعش عبر الانضمام لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي مثلت الحل الوحيد؛ لتحرير المنطقة من سطوة “داعش“.
لقد عانت عشائر الجزيرة الكثير خلال حكم تنظيم “داعش” للمنطقة، ما جعلها تفكر في منقذ لها من هذا التنظيم، ولم تولِّ العشائر وجهتها نحو النظام؛ لأنها جربته في السابق، وما كان منها إلا أن اتجهت نحو الأكراد الذين عانوا بدورهم من تنظيم داعش، فتحالفوا وإياهم في قوات سوريا الديمقراطية؛ لتحرير المنطقة من التنظيم.
حاولت العشائر تقديم اقتراح حل بين أنقرة والأكراد عن طريق “أحمد الجربا” رئيس تيار الغد السوري حين عرض على الأكراد أن تستلم قوات عشائرية الشريط الحدودي مع الجانب التركي، ونال المقترح موافقة مبدئية من “قسد”، لكنه قوبل برفض مطلق من جانب أنقرة؛ لأنه لا ينهي التهديد الكردي – بحسب وجهة نظر انقرة-.
وأسهمت سياسات “قسد” الداخلية في توتر العلاقة مثل اعتقال أبناء العشائر بحجة الانتماء إلى داعش، وسوء الخدمات، وعدم إعطاء هذه العشائر حصتها من النفط، وسوق الشبان للتجنيد الإجباري، وكان آخرها مقتل سبعة أشخاص في بلدة الشحيل، فخرجت هذه العشائر في الأسابيع القليلة الماضية بمظاهرات مناهضة لـ”قسد”، بينما يتهم الأكراد العشائر بأنهم يساعدون مقاتلي “داعش” في استهدافهم على الحواجز وفي المقرات.
ويوضح شيخ عشائري فضل عدم ذكر اسمه أنه بعد سيطرة التحالف الدولي على منطقة شرق الفرات، واعتماد قوات “قسد” لحكم المنطقة، من العشائر من لم يقبل بها، بل واعتبرها احتلالاً رغم الإغراءات، وهناك من تعايش معها، ولكن بعد الجرائم التي ارتكبت بحق قرية “ضمان”، وراح ضحيتها خمسة أشخاص من عشيرة “البكير” خلال إنزال جوي، ومجزرة الشحيل التي أودت بحياة سبعة أشخاص، فإن العشائر أصبحت تفكر بطريقة أخرى، وقد عقد اجتماع لقبيلة “العقيدات” في مدينة الشحيل، وحددوا عدداً من المطالب وقدموها للتحالف الدولي.
مرت العلاقة بين عشائر الجزيرة والأكراد بعدد من المنعطفات صعوداً ونزولاً، وفي اللحظة الراهنة تحاول “قسد” بناء علاقة مع العشائر العربية، فعقد المجلس السياسي الديمقراطي ملتقى عين عيسى لتهدئة الأوضاع مع المكون العربي المنتفض ضدها، ولأنها تريد الاتّكاء على المكوّن العشائري للانتقال إلى بحث مستقبل المنطقة.
ضمن تسارع الأحداث السياسية والعسكرية في منطقة الجزيرة، وعدم قدرتها على مجاراة ما يحدث؛ لعدم وجود خبرة سياسية كافية لديها، ولوجود لاعبين إقليميين ودوليين لديهم أدوات سياسية وعسكرية يستطيعون من خلالها إثبات وجودهم، وضمن هذه المنعطفات التاريخية، تبحث العشائر عن فرصة لإبراز هويتها في واقع هو أصلا متشرذم، وكأن حال العشائر كما يقول المثل “كالمستجير من الرمضاء بالنار”.
من الواضح أن هناك فرصة جديدة للعشائر في سوريا؛ لتكون لاعباً رئيسياً على المستوى المحلي، إلا أن المعضلة الأساسية لدى العشائر تكمن في غياب القيادة، وعدم قدرتها على صياغة علاقة متينة مع البنى الاجتماعية، خصوصاً بعد أن جرَّدت كل القوى المحلية المسيطرة في سوريا العشائر من كل الصلاحيات طوال السنوات الماضية، الأمر الذي يفرض على العشائر إعادة إنتاج دورها، وإلا سيكون الرهان عليها كالرهان على حصان منهك.