قال تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ۖ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ)[القمر:28].

هذه آية تحكي ما يجب أن يكون قائما بين  القوم من عدل ومايفترض أن يكون قائما بينهم من إيثار. لكن الله تعالى لما كان عالما بقريحة نفر من الشح وما تغلب به طبائع الناس على اختلافهم فإنما أمرهم بالحد الأدنى وهو العدل في القسمة لخيرهم.

وأقول العدل لأن الآية حاكمة في هذا لقوله تعالى:(قسمة). والقسمة معناها إعطاء كل ذي حق حقه. ومن حق كل عضو في الجماعة أن ينال من مصادردخلها مثلما ينال غيره. طبقا لمؤهلاته ومايقدمه لأمته من واجب. وهذا مقتضى العدل بحق وما سواه محال أن يتسمى باسمه وإلا كان حيفا وظلما وقفت منه الآية الكريمة موقف الحزم بما يشيعه لفظ القسمة من قسط.

ومن جميل أن مادة قسم تشي إعطاء بالسوية وتوزيعا قائما على القسطاس المستقيم. بما ينفي عنه معنى المنحة وبما يزايله من مترادفات المنة. كيما يشعر كل فرد في الأمة بعزته وكيما يتواءم بذلكم وضع مع فطرته. ذلك لأنه تعالى من إكرامه لعباده أن منحهم  فضلا وكرما. وما معط  غيره سبحانه في الواقع إلا (مناول) لما امتن به تعالى على عبيده.

وليس ممكنا كونها قسمة إلاحين تكون قائمة على التسوية في التوزيع بحيث ينال كل فرد في الأمة حظه ونصيبه بما يلائم وضعه فيها كفرد له شأنه وكعضو له قيمته. وكل ذلك(لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد:25]والعدل. وهنا تنهض الأمم وتزكو الجماعات. وما نصب الله تعالى لواء عدل إلا لعلمه أن قوام الناس عليه وسعادتهم به.

ومنه كان سياق الآية حاسما في ذلك باختيار ألفاظ تؤدي هذه المعاني من مثل فعل الأمر(نبئهم) ومن مثل المصدر(قسمة). بما لا يدع لمتأول مجالا فقد كفاه النص مؤنة ذلك. دلالة على اهتمامه تعالى بتنظيم علاقات الناس وعدم ترك ذلك لهم رحمة بهم هم من أنفسهم فلعلهم يحيدون فيظلمون أو يجورون فيسألون.

ذلك لأن علمه تعالى قد سبق أن خلقا ممن خلق سوف يدعون لأنفسهم قيمة فوق قيمة من يسوسون تؤهلهم هذه القيمة المدعاة أن يكون لهم أوفر الحظ والنصيب في مقدرات الأمم وممتلكات الجماهير. وهو ما كان يشار إليهم باسم(طبقة النبلاء)في عصور وأماكن مختلفة من العالم. وما هذه الشعوب إلا خدم لديهم يعطونهم منا ويمنعونهم ظلما وحيفا. فقطع الله تعالى ذلكم طريقا رحمة بالجميع وفضلا.

ومن جميل أيضا مجيئ فعل الأمر(نبئهم)الدال على صدق القول ويقين الصدق. فأوامره تعالى هذا شأنها تحتمل شيئا واحداً هو القول الفصل الداعي إلى الإلزام والمحفز للالتزام معا. إذ لاتملك النفوس حيال أمر الصدق إلا قبوله و مسارعة إلى الإيمان به والإذعان له في تسليم ورضا تامين كاملين. ونفيد صدقا في أقوالنا وأفعالنا كداعية لتصديقنا في محيطنا.

لكن ذكر الماء في الآية كمناط للحكم وسبب للتوجيه الرباني الكريم يحمل من معاني الاهتمام به ما جعله نصا محكما فيها. وذلكم ليتوافق تماما مع قوله تعالى(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[الأنبياء: 30]. وما به حياة كل شيئ لايمكن أن يتركه الله تعالى هملا دون بيان لأحكامه، ودونما ذكر لضوابطه متوليا أمر ذلكم بنفسه سبحانه.

لكن تعريف الماء يشي بأنه ماء القوم المعهود لديهم المتواردين عليه لقضاء حوائجهم منه. ومنه نفيد عدم انسحاب قسمة ماء ليس لقوم فيه من نصيب. ومنه نفيد احترام حقوق الغير في ملكيتهم وعدم التعدي عليهم في ذلك تعبدا لله وحفظا لنظام الكون من الخلل وصيانة للناس عن وقوعهم في الزلل فتختل حياتهم.

ودلالات أعراف الناس حاكمة في هذا الشأن. وكذا ماهو مبرم بينهم من عهود ومواثيق واتفاقات لتنظيمه.

ولامنافاة بين ذلكم وضع وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الألباني. حيث قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: وقد اتفق المسلمون على أن الكلأ النابت في الأرض المباحة مشترك بين الناس، فمن سبق إليه فهو أحق به، وأما النابت في الأرض المملوكة، فإنه إن كان صاحب الأرض محتاجاً إليه فهو أحق به، وإن كان مستغنياً عنه، ففيه قولان مشهوران لأهل العلم، وأكثرهم يجوزون أخذه بغيرعوض لهذا الحديث، ويجوزون رعيه بغيرعوض.  

وعود ضميرالجمع في الفعل نبئهم على ثمود قوم نبي الله صالح عليه السلام. وفيه من النكارة عليهم لشين فعلهم ما ينبئ عنه عدم التصريح بهم في موضع كهذا من كتابه تعالى. وبطبيعة الحال يحمل نكارة على كل من اتصف بوصفهم أو نعت بنعتهم. إذ إن ذكر المحادين لله تعالى عن سبق وإصراره تنبعث منه ريح زاكمة.

وفيه ولاشك ما تماهى عليه القرآن من اختصار تميز به أسلوبه وما جعله به متفردا عن سائر كلام البشر مما أهله لقولهم عنه: فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله، ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته وما هو بقول بشر ولاهو بقول شاعر وما هو بقول كاهن!.

ولا يغني عن الوليد ابن المغيرة ضلاله وكذبه حينما قال(إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)[المدثر:25]. فهذه أكذوبة يعلمها هو حين قالها تقية لقومه.

ولأن ناقة نبي الله صالح عليه السلام كانت آية- وكل خلق لله تعالى آية- ولأنهم عتوا في طلبهم آية لهم منه ليؤمنوا وكان من شأنه تعالى أن يجيبهم وفي علمه نقضهم ميثاقهم. إلا أن أمره تعالى باقتسام الماء كله بينهم كلهم وبين ناقة واحدة هو في ذاته آية!. ذلك أن عقلا ليحار أمام ناقة شأنها شربه كله في يوم واحد!.

وفيه تبكيت للقوم يوم أن تجرؤا في طلبهم. ذلك أن مقتضى أدب ولوقليل مع الله تعالى قمن أن يجيب. لكنها طبائع أولى الشرود ولكنها قرائح ذوي المحادة يشددون فيشدد الله تعالى عليهم. ومنه نفيد الطلب معقولا يسيرا لاإجحاف فيه ولا عنت. كيما يظهر المرء رشيدا في منشأته لينا طبعه سديدا رأيه مقبولا معا.

وفيه رفق بالحيوان من جوانب عدة ذلك أنه تعالى أجاب طلبهم وهو خاص بناقة!. علاوة على إعطائها النصيب الوافر من الماء حتى جعلها قسيما لهم جميعهم في الماء كله. وهو سبق لم تعرفه البشرية على مر زمانها الضارب في القدم أن يقاسم حيوان واحد قوما بأكملهم في مائهم كله!. وهي صورة كاشفة عن رحمته البالغة بخلقه سبحانه.

ولو لم يكن وصف الناقة بوصف كهذا بحيث كانت قسيما لهم في الماء كله لعنتوا أكثر من عنتهم وقالوا:هذه ناقة كنوقنا وليست فيها من آية خارقة تجعلنا نؤمن!. فقطع الله تعالى عليهم طريقهم قبل أن يقولوه.! وفيه إعجازآخر بعلمه الغيب المطلق ولعلهم أن يؤمنوا بعد أن عرفوا علمه الغيب كله.  لكنها الفطرالنكدة.

وفيه سند رباني كريم لعبد نبي كريم أيضا هو سيدنا صالح عليه السلام. إذ لما جابهوه بطلب وعر كهذا وجاء رده تعالى بحرمانهم الماء يوما كاملا مقابل ناقة هي للناس كلهم آية ليعلم الدعاة المخلصون أن لهم ربا كريما لطيفا يساندهم ويقوي من عزائمهم في مواجهة خصوم الدعوة وأعدائها ليطمئنوا ويأمنوا.

وقوله تعالى(بينهم) يجعل ناقة قسيمة لهم في مجرد الذكر. ولعلهم أن يفقهوا كيف أوهى بهم ربهم أن أنزلهم منزلة كهذه،  وذلكم ليتعلم امرؤ كيف يعامل مولاه حذرا. ذلك أنه تعالى قال(وما قدروا الله حق قدره)ولذا فكان جزاؤهم بحط منزلتهم وجعلها قسيما لمنزلة ناقة!. من جنس عملهم لما لم يقدروه تعالى حق قدره!

بيد أنه تعالى فضلا منه وكرما جعل الناقة سببا في حياتهم ورغدهم. إذ في مقابل أنهم حرموا الماء يوم شربها أغدقت الناقة عليهم لبنا كافيا للقوم كلهم في يومهم هذا!. وهذه رحمته تعالى بعبيده لايؤاخذهم بظلمهم كما في(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ).

ومنه أفيد حسن ظن بالله لايحده حد ولا يقيده قيد. ذلك لأن لطفه تعالى بمن خلق نابع من كونه إلها بلغت رحمته بهم أن قسمها مائة قسم يتراحم العباد بواحد منها في الدنيا. وادخر ربنا الرحمن بقيتها ليرحم بها المساكين يوم نلقاه ويلمؤنا الحياء من مآثينا ويوم يقول سبحانه(سترتها في الدنيا وأغفرها لك اليوم).