حين انفتحت الساحة السورية على العالم الخارجي في العام 2011 بعد تفجُّر الصراع، لم تقتصر الأزمة على الأبعاد السياسية أو العسكرية، بل استطالت إلى أبعاد أكثر خطورةً على البلاد، فدخلت على الخطّ الحرب الدينية “الناعمة” عبر حملات التبشير.
كان ذلك مفاجئاً؛ فوسط الدمار والخراب والتشرُّد والتنكيل وحمَّامات الدم وقيامة القيامة في سوريا كما وصفتها وسائل إعلام غربية، تأتي الدعوات بالتبشير بالمسيحية البروتستانتية، التي جاءت من الخاصرة الكرديّة التي عانت من ويلات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ووجدوا في تلك المناطق وسيلةً للتمدُّد منتهزين بذلك تنامي الكراهية للتطرُّف الإسلامي وخلطه بالإسلام عموماً.
ظهر حركة “التبشير” جليةً في مناطق النزاع في جميع أنحاء العالم، حيث انتشر “التبشير” في “إيران” إبّان الثورة الإسلامية، كما ظهر في “إقليم كردستان” أثناء الحرب الدائرة بين السلطات العراقية المستبدّة وأكراد شمال “العراق”.
أول كنيسة “تبشيرية”
في سورية موطن الأديان؛ بدأ حراك المنظمات التبشيرية بالتزامن مع بدء الثورة، فكان أوّل تحرُّكٍ لهم في أقصى شمال شرق “سورية”، مستهدفين بنشاطهم مدينة “ديريك”، بعد سنةٍ واحدة من انطلاق الثورة السورية، حيث بنوا كنيسة قاموا من خلالها بأنشطتهم التبشيرية التي تقوم على عدة مراحل، والتي تمثّلت بدايةً في توزيع المعونات الغذائية الغالية، على ذوي الحاجة والنازحين، بالإضافة إلى توزيع كتاب “الإنجيل” مع المعونات، وطلب قراءته من المعوزين، وعرض المساعدة عليهم في فهم محتواه.
أخذ المشروع يؤتي أكله، وازداد عدد الناس الذين اعتنقوا المسيحية، وانضموا إلى طائفة البروستانت تحديداً، والتي يزعم معتنقوها بأنهم يرون الرب.
العمل السري في أربيل
انتقل النشاط التبشيري إلى مدينة “القامشلي”، واستهدف المبشرون الفقراء وأصحاب الحاجة كعادتهم، وكانت المساعدات تصلهم عن طريق إقليم “كردستان العراق” من معبر “فيشخابور” و”سيمالكا”، والتي تصل إليه من “كوريا الجنوبية”، والمفارقة أنّ سكان إقليم “كردستان” من المسلمين السنة، كما تضمُّ عاصمتها “هولير” 350 جامعاً، مما يجعل المبشرون يعملون في السر.
وبعد ذلك ينتقل المبشرون إلى المرحلة الثانية التي تتمثّل في استدراج الناس إلى بيوتهم، واستغلال عوزهم وإهدائهم مبالغ مالية، ومحاولة التأثيرعلى تفكيرهم وإقناعهم بأنها هدايا من الله تعالى، وتعويدهم على هذا النمط.
ومن ثمَّ تأتي المرحلة الثالثة التي تقتضي إقناع الناس بأنَّ الله يحبهم، وأنَّه أرسل المبشِّر لهم خصيصاً، ومن ثمَّ دعوتهم إلى زيارة “لبنان” أو “كردستان” أو “تركيا” للإقامة والسياحة على نفقة المبشِّر، مما يجعل أغلب الناس ينجرُّون وراء المصالح والرغبات، خاصةً في زمن الويلات والحروب، من ذلك ما صرَّح به المدعو “ريرزان محمد”: من أنَّه رأى الله وبشره بأن يتبع هذه الطائفة، ويأخذ على عاتقه تبشير الناس”، كما يقول “صباح أحمد”: “إنه اعتنق المسيحية بعد أن رأى الله بشكلٍ مباشر”.
موقف الإدارة الذاتية
ومن ضمن الأنشطة المحظورة التي قام بها المبشرون في سوريا، قيام الكنيسة الإنجيلية ببناء كنيسة للمبشرين وتسميتها بـ”الكنيسة الإنجيلية الكردية”، وذلك بهدف جذب الكرد، ولكن حال ما سمعت الإدارة الذاتية الكردية بها سارعت إلى إغلاقها بالشمع الأحمر وملاحقة المبشرين القائمين عليها.
وبعد أن تمكنَّت الإدارة الذاتية الكردية من إحباط مخطط المبشرين هنا، بدأ المبشرون بتنفيذ مخططٍ آخر يتمثّل في زعمهم: (إذا جلس ثلاثة اشخاص في منزل، وتكلموا مع الله عزوجل فبيتهم يسمى كنيسة)، فالكنيسة تعني لهم التواصل مع الله عزَّ وجل وليس بناء ضخماً، أو فرشاً وأثاثاً.
التقينا بأحد المتحولين إلى البروتستانت تحدَّث عن سابق عهده فقال: “كنت أعيش في “دير الزور”، كنت ملتزماً بالإسلام إلى حدٍّ بعيد، ولكن لم أرَ في الإسلام غير القتل، ورأيت في المبشرين والمسيحين المحبة والسلام؛ لذلك غيَّرت ديني إلى الديانة المسيحية، وهم يقدمون المساعدة لي في كلِّ مشكلة تواجهني هم حقاً إخوة”
هروب المبشرين
باءت محاولات الكنيسة الإنجيلية بالفشل في مدينة “القامشلي”، ولاذ جميع المبشرين بالهرب، فغيرت الكنيسة وجهتها هذه المرة إلى “كوباني” و”عفرين” لعلها تجد فيها أرضاً خصبة لتحقيق أهدافها، فهي مناطق أنهكها النزاع، وقضت “داعش” على مظاهر الحياة فيها، فقامت الكنيسة ببناء كنيسة ضخمة بعد أخذ الإذن من الإدارة الذاتية، وأطلقت عليها اسم “الكنيسة الإنجيلية المشيخية”، حيث تختلف “المشيخية” بأنها معترَفٌ بها في “سوريا” وفي مجمع الاتحاد الكنائسي العالمي، أي: “يتخذ وجودها شكلاً أكثر قانونية”.
يقول القس الكردي المتحوِّل “زانين”: “لقد تمَّ هدم كنيستنا في “عفرين”، وأتينا إلى “كوباني”، فحصلنا على الرخصة، وبدأنا نعبد الرب في الكنيسة”، وقد أخذت أجراس الكنيسة تُقرع، والتراتيل تُرفع، والترانيم تُتلى باللغة الكردية من قبل عشرات الأشخاص الذين تحولوا إلى المسيحية طوعاً.
لقد نجحت الكنيسة الإنجيلية في تحقيق هدفها في “كوباني” وبنت معبدها، واستغلت حاجة الناس وإرهاقهم من وجود “داعش” وما حلَّ بمدينتهم من عام 2014، فتحول الكثير من الناس إلى المسيحية، حيث بلغ عدد المتحولين حوالي ٣٠٠ شخص كوردي، بالإضافة إلى بعض العائلات من مدينة “عفرين”، حيث يرى بعض المحللين أنَّ سبب تحوُّل النَّاس إلى المسيحية يعود إلى نشاط الحملات التبشيرية، بينما يرى الآخرون أنها ردة فعلٍ لممارسات داعش ونتيجة حتميةً لآثار الحرب والصراع الدائر.
يبدو أنَّ المتحولين إلى المسيحية أصبحوا يمارسون حياتهم الطبيعية، فقبل عدة أيام تمَّ زواج أوّل شخصين متحولين إلى المسيحية في “كوباني”، وتمت مراسم الزواج في الكنيسة بشكلٍ علني، كما تمَّ تقديم الدعم لهما.
ووفق الإحصائيات غير الرسمية فإن نحو 4 ملايين كوردي يعيشون في “سورية” بينهم إيزيديون ومسيحيون، وهناك من يتبع الطائفة العلوية، لكن غالبيتهم من المسلمين أصحاب مذهب السنة.